الرئيسية » » جاك اشخانيص: اسير التراث وعاشق المشربية .... د. م. هاشم خليفة محجوب

جاك اشخانيص: اسير التراث وعاشق المشربية .... د. م. هاشم خليفة محجوب

Written By Amged Osman on الأربعاء، ديسمبر 12، 2018 | 7:57 ص

د. م. هاشم خليفة محجوب  

ربطتني بالأخ الحبيب المعماري السوداني ذو الاصول الارمنية جاك اشخانيص علاقة مؤسسة على معرفة لصيقة عندما التقينا اول مرة في بداية السبعينيات. جمعنا معا قسم التصميم المعماري بوزارة الاشغال حيث عملنا هناك في بداية رحلتنا المعمارية. كان مسرحها مرسمنا (الجملون) العملاق الذي قُسم داخليا لخلايا. بدائنا معا هناك وقد سَبقته في ذلك الدرب بسنتين. التحق بزمرتنا قادما من بولندا التي درس فيها العمارة في حالة اشبه بمن جاء يفك الخط. لكنني حسب متابعتي لبداياته كان قد كتب في لوحه من قبل ومسحه. لا اريد ان اشبهه بانه ولد بأسنانه لكن من المؤكد انه لم يجي الينا ليبتدئ من الصفر.

حياة جاك العملية بكل مراحلها بما فيها الفترة الطويلة التي مهدت لها اشبه برواية قامت على سلسلة متتابعة من المواقف الدراماتيكية. لا اريد ان اخوض في تفاصيلها لان العديد منها يعتبر من الامور والاسرار التي يجب احترام خصوصيتها بالرغم من انه ليس فيها ما يشين. اعتقد ان تلك الاحداث المتتابعة هي التي رسمت ملامح شخصيته بالغة التميز. لا باس من الاشارة لبعض منها هنا لأنني اعتقد انها تركت بصماتها الواضحة في العديد من جوانب اسلوبه المعماري. بالتالي يصبح من المهم تسليط بعض الضوء عليها نسبة لدورها المؤثر.

تعود جذور جاك لأصوله الارمنية وهي قومية اوربية توزعت لاحقا في عدد من الدول الاوربية. شكلت جزءً مهما من شعوب الامبراطورية البيزنطية التي نشاءت ببيزنطا التي تقع في تركيا في زماننا الحديث. يتمتع الارمن بإحساس ومقدرات فنية عالية للغاية. تعتبر مساهماتهم هي الاجمل والاعلى كعبا في مجمل ما رفدت به الامبراطورية البيزنطية التراث العالمي من الفنون والعمارة. لكن كل ذلك الفضل لم يشفع لهم. اذ استهدفتهم بعض الجهات الاوربو-اسيوية بحملات مضريه كادت ان تبيدهم فتفرقوا ايدي سبا. هربت مجموعات منهم بجلدها ومن تلك المجازر وعبر بعضهم البحر الابيض المتوسط الي مصر وقلة منهم وصلت الي السودان.

تبدأ الرواية المحتشدة بالفصول الدراماتيكية بوصول والده مع عدد من هؤلاء المهاجرين الارمن الي السودان مع بدايات القرن الماضي. في واحدة من حلقات تلك الدراما المتتابعة شاءت الاقدار ان يقترن والده بشابة سودانية. مغربية الاصول لكنها جعليه حملت سمات وجهها المليح علامات (شلوخ) القبيلة. في فصل لا يقل دراماتيكية انتقلت الاسرة لمدينة واد مدني وطاب لها المقام بحي ود ازرق. المطرز بقباب اولياء الله الصالحين والمضمخ بالأجواء الصوفية العطرة. فنمت بين والده والشيخ هناك علاقة حميمة ادخلته لديننا الحنيف عبر بواباته الصوفية. في إطار تلك العلاقة الخاصة كان الشيخ حاضرا عند مولد واحد من ابنائه فاختار له اسم الجاك الذي صار لاحقا جاك اشخانيص الذي نعرفه.

تَمدد طموح والده الذي انخرط في مجال التجارة دفعه لاحقا للرحيل من ود مدني للعاصمة الخرطوم املا في تحسين أوضاعه الاقتصادية. انخرط الفتي في مدارسها التي اعانته على تطوير مواهبه الفنية. شكلت تلك الفترة لدراسية مرحلة ثرية في حياته اذ اشتملت بعض برامجها على رحلات داخل وخارج السودان. فتحت اعينه على عوالم مهمة كان لها مردودا مؤثرا لاحقا في مسيرته المعمارية. استهدفت واحدة منها ميناء سواكن التاريخي في شرق السودان. بالرغم من ان العديد من مبانيها المدهشة كانت قد بدأت تتداعي الا ان بعض ومضاتها بهرته بفرط جمالها. رحلتان في تلك الفترة لمصر عبر ارض النوبة المرصعة بعمارة بيوتها التقليدية المدهشة فعلت فيه فعل السحر. ارخت لحالة حب من النظرة الاولي كان لها ما بعدها.

كانت ذكريات تلك الرحلات المدرسية بداية ناجحة موفقة لعلاقة تطورت لاحقا لترسم معالم مستقبله المعماري المشرق. جاءته فرصة ذهبية بعد اتمامه بنجاح للمرحلة الثانوية للسفر الي بولندا كواحد من اوائل من درسها هناك. كانت فترة ثرية اضافت اليه الكثير بالإضافة لشهادة البكالوريوس في العمارة. على سبيل المثال المدن الرئيسة وعلى راسها العاصمة وارسو كانت مطرزة بالمباني الكلاسيكية الرائعة من عصور سابقة. البولنديون أنفسهم قوم فنانون برعوا بالتحديد في اعمال الكريستال او الزجاجي النقي. ساهمت تلك المرحلة من حياته في تطوير احساسه ومقدراته الفنية مما ميزه على بقية اقرانه من المعماريين السودانيين.

مع انه ابتدر حياته العملية بشكل تقليدي في وزارة الاشغال الا انه بعد فترة قصيرة اختط له مسارا جديدا مختلفا في ذلك الزمان. حيث قادته مسيرته لبعض البلدان العربية تونس ثم قطر. اعتقد ان الاولي تركت في نفسه ومخيلته اثارا عميقة. فمنظر مدن وقرى تونس الساحلية كان ولا زال ساحرا بحق. عمارة بيضاء بغير سوء تتسم ببساطة متناهية تغمز فيها هنا وهنا مكونات ومفردات تراثية. تكللها سماء زرقاء فاتح لونها وتجلس تحت اقدامها لتغسلها مياه المحيط الكحلية. وتحف بالبيوت الوادعة بحنو بالغ اشجار الزيتون الوارفة. عناق الطبيعة مع العمارة رسم لوحة بديعة عاشها جاك بكل احساسه واختزنها في مخيلته. تعلقه بها جعله يتخذها ملجا اختياريا له في الفترة الاخيرة من حياته المفعمة بالحيويةً والابداع.

لم تكن العمارة الحضرية في تونس زمانئذ اقل تأثيرا على نفس واحاسيس الشاب الغض. بالإضافة للطبيعة الساحرة خص الله تونس بنعمة اخري ارتبطت بفترة تاريخية ضاربة في القدم. روعة بلادهم جذبت اليها اهل حضارة امبراطورية روما القديمة فاستعمروها لفترة من الزمن. شيدوا فيها القصور والفيلات وقد كانوا السباقين في هذا المجال. التي طرزوها بمكونات ومفردات عمارتهم الكلاسيكية الرائعة التي اشتهرت بأعمدتها مفرطة الاناقة والرشاقة. عاش جاك في تلك الاجواء المعمارية الرائعة واختزن تجربتها الثرية بكل تفاصيلها البديعة في ذاكرته ووجدانه. حملها لاحقا في حنايا روحه الشفيفة وعاد لأرض الوطن ليبثها عبر عمارة فيلاته بروح ابتكارية ذكية. واحدة من اهم التذكارات التي عاد بها تلك الاعمدة الكلاسيكية المنمنة الانيقة التي طرز بها اعماله في المرحلة الاولي.

عاد جاك اشخانيص الي موطنه ليستقر بها في بداية الثمانينيات. بدايته الاولي وقاعدته كانت في مكتبَ استشاري كان في الاساس خاصا بالمهندس المقاول اليوناني استفانيدس. بالرغم من انه لم يكن معماريا مؤهلا بالمعني المتعارف عليه زمانئذ الا ان عمارته تميزت بلمسات كلاسيكية وطابع رومانسي مميز. من اروع ما قدمه استيفانيدس في إطار العمارة السكنية عدد من الفيلات بحي الخرطوم واحد صغيرة الحجم متناهية الاناقة. اذكر منها بالتحديد فيلا مطلة على بداية شارع افريقيا وتقع جنوب المركز الطبي الحديث. لم يعاصر جاك استيفانيدس في مكتبه لكن تواجده فيه مكنه من الاطلاع على ارشيف اعماله فصار ملم وشغوف به. تأثره به واضح في اسلوبه في المراحل المبكرة من مسيرته.

كشفت مسيرة جاك اشخانيص منذ بدايتها عن رغبة ملحة في التخلص من قيود الحداثة. بداء يتلمس طريقه في هذا الدرب بحذر فقدم نماذج من الفيلات البيضاء تشابه الي حد ما كان سائدا في الخليج العربي. عمارة محاولاته الاولي غازلت النهج التراثي على استحياء. فظهرت العقدات او الارشات على الشرفات والبرندات. شيد على حافتها حاجز منخفض مركبة فيه صف يعرف باسم البرامك. عبارة عن اعمدة خرسانية قصيرة شبيه بأرجل الاسرة التقليدية او (العناقريب). توجت تلك الصورة التراثية بالعروش القرميدية او المارسيليا المائلة. النقلة التي حققها جاك هنا في منتصف الثمانينيات كانت جزء من حركة لتيار مناهض للحداثة بدأت بوادر نزره تظهر هنا وهناك.

فترة منتصف الثمانينيات كانت بداية مرحلة النضج بالنسبة لجاك اشخانيص. تأسست على مرحلة تعمق وتبحر في جوانب كلاسيكية وتراثية شكلت الارضية الاساسية الصلبة التي نهضت عليها عمارته. ولعه بالكلاسيكيات من عمارة الحضارات القديمة كان جزءا اصيلا من تركيبته وفهمه ومزاجه المعماري. لكنه لم يختط ويسلك الطريق السهل المباشر للتعبير عن ولعه وهيامه المفرط بها. لم يلجأ للنقل الحرفي الا في مرحلة باكرة من مسيرته. تحرر من اسار هذه الحالة بسرعة وانطلق من نفس تلك القواعد الكلاسيكية ليحلق في اجوائها ويسترد روحها مرة اخري في ثوب جديد. سطعت في هذا الاهاب في فيلا الامين الشيخ مصطفي الامين في كافوري وايضا في فيلا مدام هدى حبيب عبد الله ويوسف قلسبي في الجريف غرب.

لا أخفي افتتاني الفائق بهذين العملين. لان جاك ارتكز فيهما على قاعدة صلبة من تراث الكلاسيكية الغربية وانطلق منها ليحلق في سماوات الابداع. النسخة الاولي من فيلا الامين الشيخ مصطفي الامين المضجعة على حافة النهر بحي كافوري بالخرطوم بحري تحفة بحق. جسد فيها جاك روح معابد اليونان القديمة التي منحت الفيلا مهابة و (برستيج) بلا شك ارضي غرور اصحابها وهو انجاز عظيم يحسب له. من اروع ما قدمه هنا وفي فيلا هدى طرز اعمدة من ابتكاره تقف منافسة لتلك النظم الكلاسيكية، الدوري والايوني والكورينثي. من المحزن ان كل ذلك البهاء المعماري في فيلا الامين الشيخ مصطفي الامين تم افساده بإضافات حمقاء. تعلق جاك وافتتانه بالكلاسيكيات الغربية الذي يظهره في هذين العملين يشكل جانب واحد من عشقه للتراث الانساني العالمي والاقليمي والمحلي.

تميزت فترة النضج والاعداد في مسيرة جاك اشخانيص في منتصف الثمانينات بعدة جوانب. من اهمها التفاته وتأمله المعمق وتركيزه على تراث بيوت النوبيين الشماليين. تجربته الاولي قبل عدة عقود من الزمان شبيه بقصة حب مراهق مع بنت الجيران في الحارة. لمحها في موطنها في جنوب مصر مرة من نافذة قطار مسرع ومرة اخري من سطح باخرة نيلية تتهادي على صفحة النهر فوقع في حبها من النظرة الاولي. استطالت قصة الحب فاشعل لهيبها مرة اخري في عقد الثمانينيات تغطية اعلامية علمية كثيفة لإبداع المعماري المصري الفذ حسن فتحي. الذي استثمر في ذلك التراث واعاد تدويره مرة اخري بصورة حديثة. عجل ذلك الزخم الاعلامي العلمي بإتمام مراسيم الزواج السعيد المثمر بين جاك ومعشوقته المتدثرة بذلك التراث المدهش.

حمل جاك اشخانيص روح وملامح ذلك التراث النوبي بين جوانحه ومضى يُطوف و يُهوم به في ارجاء العاصمة. انداح ينثره هنا وهناك كنحلة نشطة تحط في المباني لكنها تتعامل معها على نحو مختلف عن حالة تعاملها مع الازاهير. تفارقها وقد اصبحت في هيئة أجمل زهرة في الوجود. كانت حالته في المرحلة الاولي اشبه بمراهق مغتر بعنفوان شبابه ينثر روائعه بشكل متدفق متعجل. في هذا الإطار وفي تلك المرحلة الباكرة وزع مفردات العمارة النوبية بسخاء وبنفس هيئتها التي كانت عليها في مصادرها الاصلية. في فترة لاحقة تميزت اعماله بالنضج فأعاد تدويرها بتصرف بائن كاشفا عن طاقة ابداعية متقدمة. الشواهد على ذلك عديدة لعل ابلغها دار السرور تلك الفيلات الثلاثة التؤام بضاحية الجريف غرب في الخرطوم.

اول اشراقاته في هذا المجال جربها في نفسه في بداية التسعينات. فيلا بيضاء صغيرة نسبيا موقعها على شارع جامع السيوفي بحي الطائف في الخرطوم. اعتاد جاك ان يطلق على البيوت والفلل التي يصممها اسماء مميزة وقد حملت هذه الفيلا اسم والدته مبروكة. عمل يتسم بالبساطة تتوجه وتلوح محياه العديد من مكونات ومفردات بيوت قري النوبة. حملت الفيلا في جانب منها بشكل بارز مفردات من بيوت النوبة الجمالية التي تبدو هنا لكأنها جزء من تلك العمارة الطينية. الت الفيلا بكل ألقها بعد ذلك للوجيه رجل الاعمال المعروف محمد اسماعيل. توسعت وتمددت تحت اشراف جاك الذي نجح في المحافظة على ملامحها وسماتها التراثية.

انتقل بعدها جاك لينجز عملا كبيرا، فيلا مترامية الاطراف على حافة النهر بضاحية الجريف غرب في الخرطوم أطلق عليها اسم دار القمر. عمل فيها العجائب اذ تختلط فيها مكونات العمارة الكلاسيكية التاريخية الغربية مع ملامح عمارة النوبة التراثية المحلية. أعظم ما انجزه هنا هو استدعائه لفكرة صحن الدار الوسطي الماركة المسجلة للبيت النوبي التقليدي الذي اعاد تدويره بروح ابتكارية عالية. حقق الفكرة في جزء شبه منفصل من الفيلا. الدخول اليه عبر ذلك الصحن. روعة المشهد هنا تتم عبر اطلالة من خلال ثنايا مشربية شرفة بالطابق الاعلى. مشهد يؤثق لحالة عناق حار بين بعض مكونات بيوت قري النوبة مع ملامح العمارة الاسلامية التراثية.

انتقل جاك في زمان لاحق لنثر ابداعه في موقع اخر في ضاحية الجريف غرب. تمددت فيه ثلاثة فيلات تؤام ترسم لوحة حداثية تستدعي الق وحميمية بيوت النوبيين التقليدية في مشروع اسماه دار السرور. ترسم واجهاتها لوحة بديعة تكلل هاماتها اشكال انصاف دوائر متتابعة تغازل الافق كما تفعل في تلك العمارة التراثية. مقدراته الابداعية العالية انقذته من الوقوع في فخ النقل الحرفي الذي كان سينتقص من قيمة هذا العمل. فمداخل الفيلات تتوجها وتحيط بها اشكال زخرفية بارزة تحاكي ملامح البيوت النوبية التقليدية. قدم حلا مبتكرا فاستخدم الحجر الرملي هنا كبديل للطين. وضح ابداعه في مكون اخر مهم تظهر فيه تشكيلات زخرفية يجاور فيها شكل الرقم ثمانية شكل الرقم سبعة. استخدمها على أطراف البلكونات الطائرة مصنعة من المواسير المجوفة المربعة كبديل لوحدات الطوب ثقيلة الوزن.



استثمر جاك اشخانيص بشكل كثيف في مكونات ومفردات عمارة بيوت النوبيين التراثية. نثر بها الحيوية في ملامح وواجهات اعماله المعمارية. فانتشل عمارة الحداثة من الحالة التي وصلت اليها والتي ادت الي اعراض الناس عنها. احدثت تلك التوجهات حراكا ملموسا وجلب له شهرة وصار هو خيار اثرياء المدينة. تعامله معهم هياء له ميزانيات مفتوحة تمدد معها خياله الجامح فانتج اعمالا بالغة التميز. بالرغم من كسبه الملموس أجد لزام على ان اوجه له اللوم في طريقة تعامله مع التراث النوبي. ركز جل اهتمامه على المعالجات الخارجية فاهتم بالمظهر أكثر من الجوهر. مثلا أهمل فكرة الصحن الوسطي في البيوت بالرغم من مروده المجتمعي والمناخي المشهود به.

يمكن ان نقول بشكل عام ان اعمال جاك اشخانيص لفتت النظر ولاقت استحسانا ملموسا. بالرغم من مظاهر التحفظ وهذا امر طبيعي بالنسبة لكل الاعمال الابداعية. استرعت انتباهي في هذا السياق ظاهرة جديرة بالملاحظة. بعض من اعجبتهم اعماله التي تحمل ملامح التراث النوبي وصاروا من عملائه اي زبائنه ليسوا بنوبيين. تذكرني هذه الحالة بظاهرة عامة في مجال اخر من مجالات الابداع. نجد العديد منا يطرب ويعشق الحانا واغنيات حديثة ايقاعاتها مستوحاة من التراث النوبي او منطقة الشايقية او ربوع كردفان. بالرغم من عدم انتمائهم لأي من تلك الاثنيات او الاقاليم وهي بلا شك ظاهرة حميدة تعزز من روح الوحدة الوطنية. اعمال جاك تسير في نفس هذا الاتجاه لهذا السبب يجب ان تجد منا الاشادة.

ثمة اهتمام اخر نافس تراث بيوت النوبة خلال فترة التحور والنضج الفكري التي مر بها جاك اشخانيص في بداية الثمانينيات. هو التراث المعماري لميناء سواكن التاريخي المضجع في حضن خليج صغير على ساحل البحر الاحمر في شرق السودان. كان اول لقاء له معها مشابه لما حدث له من قبل مع بيوت قري النوبة في موطنهم في شمال وادي النيل. ساقته الي لتلك المدينة التاريخية الساحرة رحلة مدرسية في الخمسينيات. مست شغاف قلبه البض زمانئذ عمارة مبانيها المدهشة التي كانت ما زالت متماسكة. غاب عنها بعد ذلك لعقود لكن يبدو انها لم تبارح مخيلته. تطورات مهمة لاحقة كان لها وقع مؤثر في استدعاء تلك الصور والمرئيات بشكل فعال.

سفر قيم معين أنعش ذاكرة ومخيلة جاك وجعله يسترجع ملامح عمارة سواكن المبهرة. كتاب عظيم القيمة ومرجعي بالغ الاهمية صدر في منتصف السبعينيات. انتجه التشكيلي البريطاني جين- بيير قرينلو الذي اسس مدرسة الفنون في كلية غردون التذكارية. زاخر بالمعلومات مع اهتمام خاص بالمباني والعمارة بكل مكوناتها وتفاصيلها. ركز على الشرفات او البلكونات الناهضة التي تصدرت واجهات مباني المنازل. اهتم بتفاصيل مشربياتها الخشبية المكونة من اطوال خشبية متقاطعة تلتقي في تشكيلات هندسية بديعة. زين قرينلو سفره بعدد كبير من الرسومات والاسكتشات السخنة نفذها بالريشة المعدنية الصغيرة والحبر الشيني. وثقت ارتعاشاتها لمكامن الجمال في العمارة ورصدت كل التفاصيل الزخرفية المبهرة.

رسومات ذلك الكتاب احتلت حيزا مقدرا من مخيلة جاك اشخانيص وذاكرته البصرية. اصابته بحالة زغللة شبيه بما يحدث لنا عندما نكون في غرفة مظلمة بها بعض نوافذ ساطعة الإضاءة. لن يفارقنا هذا المنظر لفترة من الزمان. نغمض ونفتح اعيننا فتتراءي لنا نفس ملامح ذلك المشهد. مناظر عمارة سواكن عندما زارها جاك قبل عقود من الزمان ورسومات كتاب قرينلو ادخلته في حالة زغللة شبيه بما نعانيه هنا. هو من جانبه قام بخطوة ايجابية مهمة مكملة لهذه الاحاسيس التي كانت تجيش بها نفسه وروحه الشفيفة. احدثت تطورا ملموسا جاء في مصلحة استيعاب تجربة سواكن كواحد من اهم مصادر الهامه و مرجعيات الاساسية.

جاك اشخانيص فنان موهوب مطبوع و ملون بارع. خطي خطواته الاولي في هذا الدرب في مراحله الدراسية الباكرة. فترة دراسته في بولندا ساهمت كثيرا في صقل موهبته. التي ابتدرها بسنة في كلية الفنون انتقل بعدها لدراسة العمارة التي احتوت على جرعات من الفنون التشكيلية. تخرجه بعد ذلك وتدرجه في مسارات العمل المعماري اتاح له فرصة طيبة لمواصلة نشاطه الفني في مجال التلوين الذي ظل يعمل فيه بلا انقطاع. تنوعت وتعددت مواضيع اعماله وكانت عمارة سواكن دائما حاضرة بملامحها وتفاصيلها. لكاني به هنا قد كسي ما يشبه الهيكل العظمي لرسومات قرينلو لحما. هاتفته في منفاه الاختياري بتونس قبل ايام ونحن في خواتيم نهاية العقد الثاني من الالفية عن اخر اعماله الفنية. فعرفت منه انها مجموعات لوحات عن سواكن حبه الاثير.

انغماس جاك اشخانيص في عوالم عمارة سواكن حمله بعيدا وحلق به على اجنحة شرفاتها المسربلة بمساحات المشربية. وصفنا المشربية من قبل فقلنا انها شبكة تثبت على النوافذ مكونة من اطوال خشبية تشبه العصي تتقاطع مشكلة تكوينات هندسية بديعة الاشكال. سحرت المشربيات جاك تماما فصارت تتردد بلا انقطاع على لوحاته الزيتية المتدفقة. سرعان ما انتقلت الي ارض الواقع وتصدرت عددا مقدرا من اعماله المعمارية. ولدت اروعها اول مرة في شرفة فيلته في حي الرياض التي صارت مسكن السفير الليبي. ثم ارتحلت لدار القمر في الجريف غرب لتسطع في جنباتها. زينت بعد عدة سنوات فيلا محمد شمينا بحي اركويت فطرزت عمارتها نوبية الهوى. لا زال جاك يحمل المشربية في وجدانه متأهبا ليظهر بها في مواقع جديدة فيفجر معها الدهشة اينما حل وحطت رحلها.  


علاقة جاك مع المشربية توثق لحالة حب فريدة في نوعها اوفلنقل بشكل دقيق حالة عاشق لعوب. فالمشربيات التي تزين عدد من اعماله المعمارية لا تتشابه. كل واحدة منها تحمل بصمة مختلفة وان كانت كلها لبنان ما. صممها وأشرف على صناعتها في كل حالة بطاقة خيالية جارفة من الحب. تمثل ظاهرة جاك في كل تلك المرات حالة عاشق متقلب المزاج متعدد النزوات يتنقل بحرية بين عشيقاته. كلما قضي اياما واوقاتا سعيدة مع واحدة منهن استشعر بان بالإمكان ان تكون هناك من هي احلي منها. فيبدأ في تخيل ملامحها ويعمل جاهدا ليخرجها الي ارض الواقع ليعيش معها اسعد ايام عمره. تستمر دورة المرور على العشيقات وتستمر معها العملية الابداعية فينتج جاك كل مرة مشربية فريدة السمات.  

بذل جاك مجهودات مقدرةً في تصميم وصناعة المشربيات، لكن المشكلة أنك تحس ان عددا منها غير مستخدم. أكبر دليل حالة محددة تصطف فيها ثلاثة بجوار بعضها البعض لم الاحظ ان ورائهن نوافذ. إذا كانت ملاحظتي صحيحة يصبح وجودهن هنا مجرد (ديكور) في حالة مشابه للطيور المحنطة. بالطبع مثل هذه الامور امرها متروك للمصمم لتقييم الحالة والتعامل معها حسب رؤيته. بصراحة إذا كانت مشربيات سواكن هي بحق الملهمة كنت اتمني ان تكون مركبة في شرفة او بلكونة ناهضة متسعة تضج بالحياة. اشواقي هنا مؤسسة على رؤية ناقدة لواقع معاش. تشعر بان بلكونات عمارة الحداثة في مجملها تحتاج لإعادة نظر. تصميمها في اغلب الحالات يكاد يكشف تماما من يجلس فيها. هو من جانبه يرد الصاع صاعين، ان لم يراعِ حق الجار سيكشف من يطل عليهم من على.



شهد العقد الثاني من الالفية الثالثة نقلة مهمة في مسيرة جاك اشخانيص وهي استيعابه لمكون جديد اضيف لمجموعة مرجعيات مصادر إلهامه. وظفه ببراعة في عدد من اعماله، بعضها وجد طريقه للتنفيذ والبعض الاخر ما زال ينتظر. صار ينهل مما يمكن ان نُعرفه بعمارة المدن المحلية التي اكسبها بعض التقادم الزمني صفة التراثية. من اهم نماذجها عمارة الكولونيال او عمارة المستعمرين البريطانيين. التي أرخ لها النصف الاول من القرن الماضي بمباني في غاية الروعة سطعت في انحاء العاصمة المثلثة. تضاف اليها نماذج اخري خارج اطارها من المباني المميزة التابعة لجهات اخري غير حكومية. كانت هذ النوعية من الاعمال المعمارية هي الرصيد الذي استثمر فيه جاك.

طبق جاك افكاره في هذا السياق في تصميم عدد من فروع بنك النيل الازرق والمشرق واولها في بورتسودان الذي لم ينفذ حتى الان. انزلها الي ارض الواقع في فرع البنك في كسلا حيث طعم العمارة بمكونات من مسجد ضريح السيد الحسن. معروف ضمنا مكانة السيد ومحبة اهل كسلا له. تعامل بشكل مشابه مع فرع البنك في السجانة وموقعه في الركن الشمالي الغربي من الحي مطل على الامتداد الجنوبي لشارع الحرية. استلهم جاك هنا الشكل العام من واجهة مبني البريد الرئيس في شارع الجامعة التي رسخت في اذهان اغلب سكان وزوار العاصمة. الجميل في تصميم هذه الفروع ان مصدر الهامها جاء من لدن العمارة المحلية لنفس المدينة المشيدة فيها.

طريقة تفكير جاك وتعامله مع مشروع فروع البنوك يأتي في إطار مفاهيم مدرسة المحلية الراجعة. التي خرجت من رحم توجه ما- بعد- الحداثة العريض الذي نشاء وترعرع في الغرب الاوربي في نهاية سبعينيات القرن الماضي. ثم تمدد بعد ذلك في كل ارجاء العالم. توجهه وتعامله مع مشروع فروع البنوك هنا في نفس تلك الاطر ينم عن ذكاء فائق. استثمر بحنكة انتهازية في عاطفة الحنين الي الماضي او (النوستالجيا). هي ظاهرة تتجلي بوضوح في مجالات ابداعية اخري. مثل ترديد المغنين حتى الشباب منهم لأغاني الحقيبة والرواد التي تجد استحسانا بائنا. توجه جاك هنا يجعل المدينة اشبه بالثعبان، يغير جلده كل مرة لكنه يظل هو نفس الثعبان.

الواضح ان واحد من اهم اسباب اعجاب الناس بعمارة جاك اشخانيص هو فنياتها وجمالياتها العالية. سر الانجذاب ان عمارتنا التي تنكبت درب توجه الحداثة العالمي صارت قاحلة وجرداء بالإضافة لتكراريتها الباعثة للملل. المشكلة الكبرى ان العديد ممن يسيرون على هذا الدرب يعتقدون ان هذا الشكل البائس هو اساس التوجه. قل ان تجد منهم من هو مستعد للاعتراف بان سبب البؤس هو ضعف احساسه وامكانياته الفنية. راي الشخصي ان جاك قدم لنا خدمة عظيمة. استخدم تعبير درج السياسيين على تكراره بانه نجح في توطين الفنيات بالداخل، والمقصود بالداخل هنا البيت المعماري. لأنها تدريجيا اصبحت خارجه تماما. هذه خدمة عظيمة يجب ان يشكر عليها جاك اشخانيص.

راي الشخصي الذي يتفق معي فيه العديد منكم ان توجه الحداثة وصل الي طريق مسدود. حقيقة توصل لها قبل ثلاثة عقود من الزمان نفس من تبني هذا التوجه في الغرب الاوربي. قرائن عديدة تعزز وجهة نظري من اهمها اعراض الناس عن عمارة هذا التوجه الذي تتجسد في شتي الصور. العالم الغربي بحكمته المعهودة حاول تجاوز هذا المأزق بتبني توجه عريض مناهض عرف باسم ما- بعد- الحداثة. تفرعت منه عدة مدارس كل واحدة منها تأسست على فهم واسلوب سعي لتجاوز واحدة من اهم نقاط ضعف نهج الحداثة. نذكر منها هنا مدارس الكلاسيكية الراجعة والتراثية الراجعة والمحلية الراجعة. المتأمل لمسيرة جاك اشخانيص يكتشف انه تبني في اعماله المتعددة نهج هذه المدارس. لهذه السبب اعتقد ان ما يقوم به يمثل واحد من طرق الخروج من مازق الحداثة.

قبل ان اختتم مبحثي هذا يجب ان اشير لجانب مهم تميز به جاك اشخانيص على العديد منا. هو تقييمه واهتمامه العالي جدا بالجانب الحرفي في العمارة. الذي يستوجب درجة عالية من الحساسية والدقة في تصميم وتنفيذ كل مكوناتها وتفاصيلها والذي يلعب فيه الحرفي دورا رئيسا. الكثير منا من خلال تصاميمه يتجنب مواجهة مثل هذه التحديات بتبسيط العمل المعماري بقدر الامكان مما يخصم احينا من قيمته. يسلك جاك دائما خطا مغايرا فهو يهوي التحديات ويتصيدها بتصاميم حافلة بالأفكار الجديدة المعقدة. يتغلب عليها بتدخله المباشر واللصيق في عمليات التنفيذ بحيث يكاد يعمل جنبا لجنب مع الحرفي. لكاني به هنا يفعل جيناته الارمنية الكامنة فهؤلاء القوم عرفوا بأنهم من أبرع الحرفيين. عزائه دائما ان نتائج عمله المضنى الدقيق تكون مدهشة للغاية كما هو واضح في جل اعماله.

نورد هنا بعض امثلة عن اهتمامه بالجانب الحرفي ومساهمته فيه. على سبيل المثال كان جاك يجلس على الارض ويعمل جنبا لجنب مع الخزفيين التقليديين الذين يصنعون الجرار او (القلل) والمزهريات بحي القماير بامدرمان. لأنه يبتغي اشكالا محددةً غير مألوفة وشائعة ليضعها مثلا في مواضع متفرقة في فيلا مبروكة بحي الطائف. يقوم بنفس المتابعة اللصيقة لمن يصنعون اجزاء المشربيات بالغة التعقيد بمهارة وصبر الجواهرجية. من اشراقاته انه في زمان مضي لم يكن راضيا عن تصاميم بلاط السيراميك فقرر ان يصممها حسب رؤيته. نفذ افكاره بألوان خاصة على البلاط الصيني الابيض الصغير واستعان بفرن صغير لتثبيتها. اذكر انه نفذ بها لوحة جدارية رائعة تحيط بآية الكرسي عند مدخل فيلا محمد شمينا باركويت. هذه فقط بضع امثلة لإشراقاته حرفية المنحى.

البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب

امدرمان- ديسمبر 2018

هذه المقالة والدراسة المؤجزة مع اخريات مشابه ستصدر قريبا في كتاب من تأليف الدكتور/ هاشم خليفة بعنون (بيوت السودان)

شارك هذا المقال :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

 
Support : Creating Website | Johny Template | Mas Template
copyright © 2011. سوداكون - All Rights Reserved
Template Created by Creating Website
Proudly powered by Blogger