
علاقتنا بالحجر الرملي أو الساندستون كما يشار إليه باللغة الإنجليزية كخامة بنائية أساسية ضاربة في القدم وتعود بنا لآلاف السنين. قصة حب طويلة مع هذه الخامة النبيلة المتوهجة وثقت لها روائع معمارية عبر عصور متعاقبة. تشهد عليها معابد وأهرامات ممالك حضارة كوش التي ترصع الصحاري في شمالنا الحبيب. حمل بين جنبات عمارته المدهشة مضمون رسالة عدة ديانات عبر عدد من الحقب التاريخية. تعامل معها بذهن وفكر مفتوح. نجح عبر مرونة طبيعة خامته ومظهرها الوهاج في عكس وتوصيل مفاهيمها العقائدية على أحسن ما يكون.
كان الساندستون حاضراً بقوة في توصيل المعاني العميقة لديانة الإله الأكبر آمون خلال مراحل ممالك كرمة ونبتة في إطار حضارة كوش. تشهد بذلك عدد من المعابد تحديداً تلك الرابضة والجاسية تحت أقدام جبل البركل وعلي رأسها معبد آمون الكبير. كان الحجر الرملي على أهبة الاستعداد لتقديم خدماته في مرحلة لاحقة لحضارة كوش. عندما اتخذ ملوك وأهل مملكة مروي خطوتهم الجريئة فاتخذوا لهم إلهً محلياُ هو آبادماك. كان له ظهور مشرف علي واجهات معبده الصغير الأنيق معبد الأسد. عمل مهيب لعمارة الحجر الرملي أرخ لمرحلة تحول عقائدي مهمة للغاية.

فارق الساندستون أرض النوبة في تلك الأزمنة الضاربة في القدم وارتحل لمناطق أخري في السودان يبحث له في عهود لاحقة عن موطئي قدم. لم يشاء أن يزاحم ابن جلدته الحجر المرجاني في رحاب ميناء سواكن في شرق السودان خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ترك له المجال كاملاً لكي يصوغ بأحجاره المجلوبة من قاع البحر وسواحله أجمل الروائع المعمارية. ارتحل مع بدايات القرن العشرين إلى الخرطوم الكبرى التي أنشاءها نظام الحكم الثنائي الإنجليزي المصري. فأجتهد لكي يشكل حضوراً مشرفاً وإن كان محدوداً خلال فترة احتلال استمرت لستة عقود من الزمان. فساهم في تطريز أفق العاصمة بدرر من عمارة الحجر الرملي.

كانت ضربة البداية بالنسبة للمصريين أهم المباني بالنسبة لهم ذات الطابع السيادي. مبنيي السفارة والقنصلية وقد خصص لهما موقعين مفتاحيين. موقع السفارة في الطرف الغربي من شارع الجامعة على الجانب الجنوبي المواجه لقاعة الصداقة. خصص للقنصلية موقع علي شارع الجمهورية في الجزء الغربي من مركز الخرطوم التجاري. كلا المبنيين متوشحان تماماً بالحجر الرملي الذي أضفي على العمارة بديعة التصميم شخصية اعتبارية بائنة و (بريستيج) طاغي. مدخل مبني القنصلية محتشد ب (موتيفات) ومفردات تراثية من عدة حقب من تاريخ مصر. ملامح وسمات مبني السفارة أكثر عصرية. عمليات التجديد المتعاقبة التي طالته لاحقاً خصمت كثيراً من طابعه الكلاسيكي.

وجدت المؤسسات الدينية حظها من الاهتمام الخاص من الجانب المصري في نظام الحكم الثنائي. شكلت أحد أولوياتهم وهم يجتهدون مع شريكهم البريطاني في تأسيس عاصمتهم الوليدة في النصف الأول من القرن العشرين. يبدو أنه كان هناك دافع إضافي لهذا الاهتمام حركته روح المنافسة له علاقة بعمل مهم للشريك البريطاني. الذي شيد كنيسة كبيرة مميزة التصميم في إطار مجمع القصر الرئاسي وليست ببعيدة عنه. في حالة استثنائية هنا تخلوا عن خامتهم الأثيرة طوب السدابة فشيدوها بالحجر الرملي. يبدو أن هذا العمل الرائع كان دافع إضافي للجانب المصري لكي يرد بالمثل. فشيد جامع كبير في موقع مفتاحي في العاصمة الخرطوم.

رد الجانب المصري من خلال هذا المشروع الكبير على شريكه البريطاني بنفس الخامة البنائية والطراز المعماري الضارب في القدم. تفوق عليه ورد له الصاع صاعين. أستخدم الحجر الرملي لكآنه يريد أن يثبت بأنه هو الأجدر بالتعامل معه من واقع العلاقة التاريخية الضاربة في القدم التي تربطه به. وظفه بمهارة وحذاقة عالية فأنتج عملاً رائعاً محتشداً بالتفاصيل الدقيقة المتكئة على تراث العمارة الإسلامية المدهش. حلق بالحجر الرملي إلي أعلي مراقي الكلاسيكية فبذ بذلك طراز كنيسة القصر. إذا قيمنا هذا العمل وقارناه بإنجاز منافسه البريطاني علي أساس أهم معيارين هنا، توظيف الخامة والتعامل مع التراث نجده متفوقاً عليه بمراحل.

لم تكن العمارة حجرية مائة بالمائة إذ تفصل بين مكوناتها مساحات من الطوب الأحمر. تظهر تقنيات وفنيات الحجر الرملي بكثافة في الأجزاء المهمة التي تشكل مركز الانتباه والاهتمام. مثل المداخل الرئيسة تحديداً المنطقة الواقعة فوق الأبواب التي تصدح وتتجلي فيها أعمال الحجر. نلاحظ هنا محاولة لم تصب قدراً كبيراً من النجاح لاستنساخ حالة مداخل مسجد أصفهان الشهير ببلاد الفرس. رفرفت الأعمال الزخرفية فتوجت الحوائط الخارجية، تلك الشرائط التي تعرف باسم حائط البارابيت التي تغازل الأفق.
قمة التعامل مع الحجر الرملي تتجلي في المئذنتين الشاهقتين. تحتشد أسطحها بالأعمال الزخرفية البارزة مع تركيز على أجزاء معينة. تحديداً التي تحمل المكونات الناهضة مثل الشرفات أو البلكونات. تتجلي هنا المقرصنات التي ابتدعها المهندس والمعماري المسلم قبل آلاف السنين فتشكل حضوراً باذخاً. تضاريسها الثرية وشكلها الناهض الذي يحمل الشرفات على أكف الراح يشكل أهم الملامح في جسم المئذنة. عبقرية هذه الفكرة نابع من أنها تستمد جمالياتها من نظامها الهندسي. تشتعل فنيات أسطح المئذنة وتتوهج عندما تغازل أشعة شمسنا المدارية تفاصيل تضاريسها المنمنمة في غدوها ورواحها.

مشروع محدد وثق لحالة استثنائية سلمت فيها الجهات البريطانية المعنية بالمشاريع المعمارية المهمة نفسها طائعة مختارة لخامة الحجر الرملي. استسلمت له تماماً فبادلها حباً بحب. فمنحها كل أسرار تقنياته وجمالياته المدخرة في خزائن كلاسيكيات عمارة الحضارات الضاربة في القدم. تجلي هذا الجمال البازخ في مبنيين تؤامين متقابلين يحيطان بالطرف الجنوبي لشارع فكتوريا القصر حالياَ. شكل هذان العملان حالة فريدة وسط تلك المنظومة البديعة من عمارة السدابة التي زين بها الشريك البريطاني جيد عمارة الخرطوم.

أعتقد أن سر عظمة هذين المشروعين العظيمين تكمن في العواطف الجياشة التي حركت العمل فيهما منذ البداية. تمويلهما جاء من مبلغ كبير هو حصيلة دية دفعت لأرملة السير لي ستاك حاكم مصر والسودان في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي. سددتها لها الحكومة المصرية تعويضاً لاغتيال زوجها بأيدي مصرية. كان اللورد حسب إفادات زوجته يكن حباً كبيراً للسودانيين. فقررت أن يخصص المبلغ لمشروع يقدم لهم خدمات طبية خاصة بتركيز على مكافحة الأمراض والأوبئة التي تهدد صحتهم. عليه استثمر ذلك المبلغ في تأسيس معمل طبي مركزي حمل إثم السير وصار لفترة طويلة يشار إليه بمعمل ستاك.
جاء تنفيذ هذا المشروع متزامن مع مشروع مشابه له تماماً في شكله العام وكل تفاصيله شيد على الجانب الغربي من الشارع. أهمية المبني الثاني نابعة من أنه خصص لمؤسسة شكلت واحدة من أهم أسبقيات الشريك البريطاني. الذي جعل أمر تأسيس التعليم الجامعي واحد من أهم اهدافه. كخطوة متقدمة في إطار تطوير كلية غردون التذكارية أنشاء كلية الطب التي كانت نواتها الاولي مدرسة كتشنر الطبية. كنوع من الاهتمام الفائق بها خصص لها مبني بالغ التمييز طبق الأصل من مبني معمل استاك شيد على الجانب الغربي من الشارع.

تنزلت بعد ذلك سمات وبصمات الكلاسيكية لمستويات أقل. نلاحظها في ملامح عامة في خارطة المبني وشكله العام. في حالة استثنائية نجد الجزء الأوسط المواجه للشارع الرئيس علي شكل ربع دائرة. معروف أن العمارة الكلاسيكية تأسياً بمفاهيم الفيلسوف اليوناني الأشهر أفلاطون تحتفي بالأشكال الأساسية التي صارت تقترن باسمه. تعتبر الدائرة وأجزائها واحدة من أهمها. في نفس هذا السياق استلفت العمارة هنا واحد من أهم الأشكال الأفلاطونية وهو الكروي. في حالة نادرة وفريدة لم تتكرر في عمارة الكولونيال السودانية نجد الجزء الأوسط من المبني معروش بقبة. طلائها باللون الفضي منحها تميزاً لافتاً معبراً عن أهمية هذا المشروع وقيمته التذكارية.

أعود مرة أخري لجملة ابتدرت بها حديثي هنا عن هذا التؤام المدهش من عمارة الحجر الرملي. أشرت من قبل للعواطف الجياشة التي ارتبطت بالمشروع. أعتقد جازماً بأنها كانت هي الطاقة الهائلة التي حركت العمل وأوصلته إلى هذه النهايات السعيدة. يعتبر مشروع هذين المبنيين حالة نادرة في مجمل مسيرة عمارة الكولونيال البريطانية في السودان. وثقت لأول مرة لتخليهم الكامل عن خامتهم الأثيرة طوب السدابة وارتمائهم في أحضان الحجر الرملي. الواضح أن تبنيه هنا كان لقناعة بأنه هو الأنجع في توصيل الأحاسيس التي تعتمل في صدر مسز ستاك زوجة الحاكم المغدور. لقد نجحت تلك الخامة أيما نجاح في إنتاج عمارة جاءت قمة في التعبير وذات سمت تذكاري باهر ساهم بشكل مقدر في تخليد ذكراه.

طراز مبني المقر السابق لشركة سفريان كلاسيكي كامل الدسم. يشيئ بذلك توشحه الكامل بالحجر الرملي و ضخامته البائنة. تدعم هذا الطراز مكونات وموتيفات مثل تلك التي تحمل الشرفة الناهضة في واجهة المبني والحليات المتوجة للنوافذ والمحيطة بها. منحت العمارة نفساً مميزاً وهيبة و (بريستيج) بائن. كان يليق تماماً بمكانة الشركة في إطار منظومة مؤسسات القطاع الخاص زمانئذ. من المحزن أن كل ذلك الألق المعماري ينتهي به المطاف ليصبح مستودعاً للملفات. لو أنه كان في بلد متحضر بحق لتخاطفته جهات مهمة وجعلته مقراً لرئاستها. لو أن المبني كان في روما مثلاً لاشترته دولة مهمة وجعلته مقراً لسفارتها.

نعود مرة أخري لحال العمارة السودانية وهي تعايش ظروف تلك الحالة المفصلية التي كانت أشبه بعملية المخاض. دعونا واستكمالا لما بدأناه ننظر لهذا الموقف من خلال زاوية مواد البناء الرئيسة. كنا قد حصرناها في مرحلة الحكم الثنائي ونظرنا إليها باعتبارها كانت منافسة بين طوب السدابة والحجر الرملي. يكون من المفيد أن نرجع للوراء قليلاً ونتتبع في شكل ملخص سريع مسيرة الخامتين وهما تعبران بالسودان إلى مشارف الاستقلال. لنبداء بحال طوب السدابة.

كان للبريطانيين في فترة لاحقة دور إضافي لا يقل أهمية في الحفاظ على الموقع المتقدم لخامة الطوب والسدابة كمادة بناء أساسية في السودان. تم ذلك في سياق مختلف وكجزء من دور بالغ الأهمية قامت به مجموعة من الأساتذة البريطانيين. الذين أسسوا في نهاية الخمسينيات أول قسم لدراسة العمارة بجامعة الخرطوم. قام على فكر الحداثة وتوجهه المعماري الذي اجتاح الغرب الأوربي خلال تلك الفترة. كانت خامة الطوب الأحمر والسدابة خامتهم الأثيرة حاضرة بقوة في هذا الإطار. فقدموها بمعاونة أبكار الخريجين من طلابهم النجباء في ثوب حداثي قشيب في مواقع الجامعة المنتشرة في العاصمة المثلثة. خرجت بعد ذلك لتنداح على نطاق أوسع.

بالرغم من ذلك لا يمكن تجاهل او التقليل من دورهم في تقديم عمارة الحجر الرملي بشكل مشرف بالرغم من محدودية الفرص المتاحة. تشهد بذلك أعمال في غاية الروعة أشرنا إليها من قبل بشئي من التفصيل. واحد من العوامل التي حَدت من رفع حد سقف تأثيرهم هي طبيعة عملية إنتاج مدخلات هذا النوع من العمارة. بالذات بالنسبة للأعمال الكبيرة معقدة التفاصيل. أبلغ دليل علي ذلك لجوئهم للحجر الصناعي كبديل للحجر الرملي في بعض الحالات. فعلوا ذلك وهم على وشك مغادرة البلاد مع شريكهم البريطاني. اعتمدوا عليه في تشييد جامع الملك فاروق الذي أرادوا أن يعكسوا فيه روعة العمارة الإسلامية بكل ألقها وتفاصيلها المدهشة الدقيقة. عدم توفر الآليات اللازمة والنحاتين الحاذقين جعلتهم يتخلون عن فكرة استخدام الحجر الرملي.

حاولت خلال العقود الماضية تتبع مسيرة عمارة الساندستون في أنحاء العاصمة المثلثة فلم أجد لها للأسف الشديد أثر واضح. ينطبق هذا القول على مدينتي الفاضلة أمدرمان بالرغم من أنها تتمدد على أرض أساسها الحجر الرملي النوبي Nubian sand stone. تجاهل المحتل لهذه الأمر خلال العقود الأولي من فترة حكمه مفهوم من واقع أن المدينة لم تكن مأمونة تماماً بالنسبة له. لكنه في زمان لاحق أنتبه لهذا الأمر واستثمر في الحجر الرملي المتوفر بالمدينة. أستخدمه بشكل محدود جداً لهذا السبب صارت تلك الحالات النادرة معالم مهمة هناك.

تتابعت العقود خلال فترة الحكم الوطني ولم يتغير موقف عمارة الساندستون بشكل ملموس. تراجع موقف هذه الخامة مع انتشار المباني متعددة الطوابق إذ أن ثقل وزنها صار عاملاً معوقاً لاستخدامها. بالرغم من هذا التراجع نلاحظ تواجد محدود لنوعيات أخري من الحجر الطبيعي. ظهر على استحياء في بعض الأعمال الحداثية القرانيت والبازلت فيما يشبه عملية التطعيم. اعتاد بعض المعماريين الحداثيين مثل عبد المنعم مصطفي وكمال عباس تطريز أعمالهم وأغلبها من نوع الفيلات بمساحات محدودة منها. الواضح أن اختيارها نابع من اختلاف لونها عن لون مساحات الطوب في الواجهات في عملية تنوع محببة contrast.
مع بداية الألفية الثالثة حدث تطور كان يمكن أن يعطي صناعة عمارة الحجر الرملي دفعة مقدرة. حصل رجل الأعمال أشرف سيد أحمد علي حق الاستثمار في جبل صغير يقع جنوب مدينة بأمدرمان. فبداء هناك مشروع لإنتاج الوحدات البنائية أطلق علي اسم الكاردينال. ركز على إنتاج وحدات الطوب وصرف النظر عن المكعبات ذات الحجم الأكبر. يبدو أن استبعاد المكعبات سببه ثقل وزنها وصعوبة حملها على العمال. خصم هذا القرار من حظوظ عمارة الحجر الرملي واختفت الشركة من الصورة. تبقي لنا اسم الكاردينال الذي التصق بصاحب المشروع فضاعف من شهرته. التي زادها بنجاحات باهرة في مشروع أخر في مجال الرياضة إذ شيد الجوهرة الزرقاء كمجمع رياضي بمستوي عالمي.
خلال رحلاتي المكوكية في أرجاء العاصمة المثلثة في السنوات الأخيرة كنت دائماً ابحث بفضول عن مبني مشيد من الحجر الرملي. للأسف الشديد وإلى حد بعيد يبقي ذلك المبني متوسط الحجم وحده كالسيف. الرابض في موقعه بحي الخرطوم شرق علي شارع الشريف يوسف الهندي الفرعي وعلى مرمي حجر من شارع المك نمر. عمل معماري بالغ التميز لأنه يجمع بشكل عبقري متوازن بين الأسلوبين الكلاسيكي والحداثي. صممه المبني المعماري المخضرم المميز مفجر المفاجآت حيدر أحمد علي وأعده كمكتب استشاري لمجموعته.

اجتاحت العالم الغربي مع بدايات القرن الماضي متغيرات فكرية عاصفة حملت معها رياح الحداثة في كافة المجالات. نالت الإبداعية منها نصيب الأسد وكانت العمارة في قلب الحدث. في إطار أجندتها شنت حرباً شعواء على النهج والتوجهات الكلاسيكية. وصلتنا تداعياتها فظهرت ملامحها المعمارية في نهايات العقد الخامس. شهدت نهاية السبعينيات في نفس ذلك الغرب الأوربي حركة معاكسة. أطاحت بكل مفاهيم الحداثة فاستدرت الكلاسيكية أراضيها مرة أخري. لكنها لم ترجع بثوبها القديم الذي نسج منواله عباقرة الحضارات الضاربة في القدم. تأكيدا لمبدأ الإبداع وهو أساس العمل الفني عادت محمولة على فهم جديد مؤسس على استلهام التراث بدون ما نقل حرفي.

أعادت أفكار هذه المدرسة العمارة الكلاسيكية إلى دائرة ضوء مرة أخري. لكنها ظهرت في ثوب جديد. يبدو أمرها من أول وهلة في منتهي البساطة لمن ينظر إليه بدون تعمق في فحواها وفلسفتها. إلا أنه في واقع الحال بالغ التعقيد ومحفوف بالتحديات وأكبرها تحريم النقل الحرفي. تم التحايل على هذه الجزئية بعدة طرق. كآن يتم استخدام نفس شكل المبني مع تغيير ملحوظ في حجمه أو خامته البنائية. قد يكون الاختلاف في نوع الاستخدام. فتح هذا التحايل الباب على مصراعيه للإغتراف بقصد الاستلهام من ثروات العمارة التاريخية من كافة منابعها.

تهمنا بشكل خاص هنا في إطار تناولنا لموضوع الحجر الرملي عمارة الحضارة الفرعونية إذ كان هو دائماً سيد الموقف. الحديث عنها يقودنا لحال حضاراتنا الضاربة في القدم التي جايلتها، تحديداً كوش بممالكها الثلاثة. المصرية نالت جل الاهتمام لعدة أسباب معروفة. الأهرامات بشكلها الأسر والمهيمن نالت جل الاهتمام. استهدفها رواد مدرسة الكلاسيكية الراجعة وقاموا بتدويرها بشتى الطرق متفادين عملية النقل الحرفي. أشهر النماذج ذلك الهرم الزجاجي الرابض في الفناء الأمامي لمتحف اللوفر في باريس. تم التحايل هنا بتغيير الحجم وخامة البناء التي يغلب عليها الزجاج. شمل التحايل أيضاً تغيير غرض الاستخدام ففي حالة مجمع متحف اللوفر أستوعب الهرم مبني استقبال فسيح.

كنا نتوقع في إطار مفاهيم مدرسة الكلاسيكية الراجعة أن يتم استثمار مثل هذه الحالات بشكل إبداعي. بالإمكان التلاعب ببعض سماتها كما فعل الفرنسيون في هرم متحف اللوفر الذي أشرنا إليه من قبل. لكنني أفضل في هذه الحالات الاحتفاظ بالحجر الرملي كمادة أساسية إذ أنه سيمنح العمارة مهابة واحساس بالقدم. عمارته إذ اتكأت على تاريخنا وتراثنا السوداني تكون هي الأنسب للمباني السيادية. للأسف الشديد مع التحولات السياسة أوكل أمر التعامل مع مثل تلك المشاريع لمن يفتقدون للرؤية المعمقة والفهم المتقدم. هذه واحدة من إفرازات حل وزارة الأشغال واستبدالها بجهة تديرها مجموعة صغيرة بمؤهلات متواضعة وخبرات محدودة.

انا أختم هذا المقال طالعت في الصحف إعلانات لجهة تعمل في إنتاج الحجر الرملي. سرني الخبر للغاية فتمنيت لهم النجاح لكنها فرحة لم تكتمل لأنها سينتجون حجر التجليد الذي لا يصلح لتشييد الحوائط الأساسية. الطريق طويل وشاق لكي ننجح في أن تسترد هذه الخامة النبيلة موقعها كمنافس لخامات البناء الأخرى. يجب أن نعمل معاً على كافة الأصعدة لتحقيق هذا الهدف بحسبانه عمل وطني فالحجر الرملي متوفر في الكثير من أرجاء بلادي. نحتاج لعمل دؤوب في كافة الجبهات من أهمها تعليم العمارة. يجب أن نستنهض الهمم لدفع الجهات الرسمية لتبني هذا التوجه. العمل الإعلامي مهم جداً على كافة الأصعدة والوسائط. بدأت هذا الجهد قبل عقدين من الزمان عبر التلفزيون القومي. هأنذا أطرق أبواب الفضاءات الإسفيرية لأعانقكم عبرها.
البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب
أمدرمان- أكتوبر 2018
*هذه المقالة التي اجتهدت لكي أجعلها في شكل دراسة مجودة مختصرة مع أخريات مثلها ستصدر قريباً في كتاب من تأليف الدكتور/ هاشم خليفة بعنوان (عمارة السودان: مواقف ومشاهد).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق