د. هاشم خليفة محجوب
دَرستُ العمارة مرتين ودَرستُها ردحاً من الزمان وفق قناعات أساسية. جاء جلها وفق مفاهيم ما عرف بتوجه الحداثة الذي سيطر على ساحة تعليم العمارة فى بلادنا منذ بداية تأسيسها في منتصف القرن الماضي. واحد من أهم تلك القناعات أن العمل المعماري السليم يجب أن يكون تصميمه الداخلي متوافق مع مجمل عمارته. لكن منذ سنوات عديدة جرت مياه كثيرة تحت الجسر تسبب في فيضانات جرفت وزعزعت مثل هذه المسلمات. ارتبطت هذه التحولات بتعرض توجه الحداثة الذي قامت عليه تلك المفاهيم لإنتكاسة في الغرب الأوربي في سبعينيات القرن الماضي.
العمارة منتج ثقافي وضرب من ضروب الفنون. لذا فهى تخضع لكل المتغيرات التي تحدث من حولنا. خلال العقود السابقة حدث انقلاب في مجال العمارة أعتبر كردة فعل لطوفان عمارة الحداثة الذي اتسم بالإمعان في التكرارية والاشتطاط في الانتظامية. أنتج فضاءت معمارية غطت أفق المداين مكرورة الملامح والمحيا. خصمت هذه الظاهرة من رصيد عمارة الحداثة فمهدت الطريق للبحث عن رؤى جديدة. واحد منها تبنى دعوة قوية لتجاوز إخفاقاتها بالعمل الجاد لاسترداد عنصر المفاجأة وإنتاج عمارة أكثر حيوية. سعت في هذا الإطار لمراجعة بعض المفاهيم المتجذرة مثل تلك التى تصر على إتساق التصميم الداخلي مع عمارة المبنى. بعض معماريونا تفاعل إيجابياً مع تلك الرؤى الجديدة وقدموا أعمالاً مميزة.
إثنين منهم وهم من أميز المعمارين السودانيين تنكبوا هذا الدرب. أحدهم الأستاذ المرحوم كمال عباس وهو يعتبر واحد من أعمدة عمارة الحداثة السودانية. إلا أن ذلك لم يمنعه من الدخول أحيناً في مغامرات جريئة وتجاوزات مثل تلك التي أشرنا إليها هنا والتي لا تتسق مع ضوابط توجه تلك العمارة. تحلل أحيناً من إسارها فأنتج أعمالاً لا تخلو من مناهضة لأفكارها. تحدى قناعاتها الراسخة وضرب عرض الحائط بتعاليمها الأساسية مثل تلك التي تحتم تناسق العمارة الداخلية مع الخارجية. طبقها في واحد من أهم وأكبر وأميز أعماله المعمارية.
طبق كمال عباس أفكاره الجريئة في فيلا مفرطة الفخامة بحجم قصر فى مربع 12 بحي الرياض الخرطومي تفوق مساحتها الألف متر مربع. وهي خاصة برجل الأعمال الأشهر الوجيه/ إدوارد أسعد أيوب. بذلت وأستخدم في تشييد الفيلا أفخم وأجمل مواد البناء والتشطيبات وإكسسوارات العمارة. مكسوة كلها من الخارج بأرقى أنواع الرخام الإيطالي. عزز ذلك الإطار الرائع بتصميم بديع لكافة أرجائها مع اهتمام خاص بالتفاصيل المعمارية. المعروف عن كمال أنه امتلك ناصيتي مجال العمارة. فهو يجمع بين إلمام كثيف وعالي بتقنياتها مع إحساس فني رفيع للغاية. وظف تلك المقدرات العالية على أكمل وجه فخرجت فيلا إدوارد أسعد أيوب تحفة بحق وواحدة من أميز أعماله.
شكلت عمارة هذه الفيلا فى جزئية مهمة منها واحدة من حالات إنفلات كمال عباس من قبضة توجه الحداثة الصارمة. نجح هنا في أن يجمع بين جماليات التوجه الرصينة مع عنصر المفاجأة الذي أضفى على هذا العمل حيوية بائنة. حقق مسعاه من خلال تباين ملموس بين طراز العمارة ككل ومعالجة تصميمها الداخلي. أبتدره بمعالجات خارجية قدم فيها أروع جماليات وفنيات الحداثة إذ جاءت قمة في التجريد. تتناغم الأعمدة والأبيام البارزة أمام المبنى مع المسطحات الحائطية الرخامية المطعمة ببعض أجزاء بارزة مصممة بعناية. جماليات الواجهات تمتثل تماماً لقواعد ونواميس الحداثة الصارمة. فهي مؤسسة على نسب محسوبة بحساسية فائقة وتناغم طروب بين مكوناتها المتعددة. تتفجر تلك المعالجات حيوية عندما تغشاها أشعة شمسنا المدارية الساطعة في غدوها ورواحها.
تدفع باب مبنى الفيلا الرئيس وتدلف داخلها فتنقلك المعالجات إلى عالم أخر. التصميم من الداخل فكرته مدهشة فكل طوابق الفيلا تلتف حول صحن أو بهو داخلي معروش مترامي الأطراف. أرضيته الرخامية الممتدة لمساحات شاسعة مرصوفة بقطع ترسم تشكيلاتها لوحة كلاسيكية النفس. روحها الشرقية تجسد حالة تؤامه مع فنون كلاسيكيات الزخارف الإسلامية. نزعة كمال الابتكارية نأت به عن النقل الحرفي من ذلك التراث الخالد. تعامل معه بتصرف لم ينتقص من قيمته الزخرفية العالية بل أضاف إليها بمنحها حيوية بائنة. كانت المحصلة النهائية لوحة بازخة الجمال ارتاحت عليها بحنو بالغ مكونات ومعالجات عمارة البهو الداخلية.
يمتاز كمال عباس بطاقة إبداعية مهولة وظفها في أجزاء من بهو إستقبال الفيلا. تنهض في أركانه أعمدة ضخمة شاهقة ترتفع لعدة طوابق دورها الأساسي إنشائي إذ أنها تحمل عرش البهو. لكنه إستخدمها لمآرب أخرى فهي تحمل أيضاً أنابيب نظام التكييف. أستثمر أسطحها بشكل ذكي فوظفها لاستكمال مشروعه الجمالي التزينى الذي دشنه بالأرضيات الرخامية المحتشدة بأجمل التشكيلات الزخرفية. تنداح راسياً على أسطح الأعمدة الشامخة شرائط زخرفية براقة تتدفق عبرها شلالات الإبداع. العمل الفنى هنا قوامه أشكال هندسية صغيرة من قطع الزجاج الملون والمرايا ترصع أسطح الأعمدة. تشكل عناصر راسية ملتمعة مبهرة تشمخ في أركان البهو فتكمل صورة مساحات الأرضيات رائعة التصاميم.
المعماري المتمرد المتميز حيدر أحمد على متابع ومنفتح تماماً على كل متغيرات العمارة. إنضم منذ يفاعته المهنية كعادة المبتديين لركب أتباع عمارة الحداثة إلا أنه كان أحيناً يجنح لتمييز نفسه عن باقي القطيع. تصاعدت وتيرة هذا التوجه بشكل ملموس مع تنامى قدراته وثقته بنفسه. التى عززها بكثرة الاضطلاع والتسفار المقترن بعمله الكثيف في المجال النقابي والمهني. أهلته تلك الخلفية ومنحته مزيداً من الثقة لاقتحام أفاق جديدة في فضاءات العمارة الرحيبة. فحط رحله في أحد براحاتها التى استهوته بنهجها الرامي لضخ الحيوية في شرايين العمارة واسترداد عنصر الدهشة الذي غيبه فكر وتوجه الحداثة. في هذا الإطار راقت له بالتحديد فكرة الممازجة واستيعاب النهج الكلاسيكي والحديث في عمل معماري واحد.
أنَزل هذه الفكرة وجسدها في مبنى مكتبه الاستشاري بشارع الشريف الهندي بالخرطوم شرق. صاغ طرازه الكلاسيكي بنبرة هادئة ومعالجة نائي بها من النقل الحرفي المباشر. مكعبات الحجر الرملي كبيرة الأحجام المستخدمة في المبنى ومحدودية الفتحات في الواجهة كان لها تأثير طرازي مقدر. زادت من الإحساس بكتلة المبنى فأضفت عليه أجواء من الرزانة والعراقة والقدم فمنحته نفساً كلاسيكياً بائنا. من خلال تلك المعالجات غازل كمال هذا الطراز من طرف خفي. عبر عنه بالإيماءات فتعامل مع الملتقى باحترام عالي عملاً بمبدأ اللبيب بالإشارة يفهم. معالجة منطقة المدخل المرتدة في الجانب الشرقي شكلت بتفاصيلها التراثية إضافة مهمة. فمدخلها الصغير المتوج بعقد شبه مسطح والباب الخشبي العتيق المرصع بالمسامير الحديدية الضخمة رفعا سقف العراقة. المعالجة الخارجية في مجملها ترجع بنا قرون للوراء فتملا النفس بعبق التاريخ.
الواضح أن حيدر مفتتن بفكرة ثنائية القديم والجديد في العمل المعماري. فقرر أن يكرس مبنى مكتبة الاستشاري لاستعراض هذه الحالة. أبتدر مسعاه بتصميم الواجهة كلاسيكية المحيا والروح التي تسفر لنا عن وجه القديم. لكنى به هنا أراد أن يهيئنا لما سيأتي ونحن مقبلون على عالم محتشد بالحداثة داخل المبنى. إستخدم نفس الواجهة المتطاولة لخدمة هذا الغرض فوظف طرفيها ليستعرض طرفي نقيض هذه المعادلة. أشرنا من قبل لمؤشرات الكلاسيكية في منطقة المدخل في الجانب الشرقي من الواجهة. قدم لنا طرف النقيض الأخر للمعادلة في الطرف الغربى منها. إذ فجأة ينهض فى الجزء الأعلى منه وتبرز كتلة بمقدار متر مشيدة بمكعبات زجاجية صارخة اللون. الواضح إنه هنا أراد أن يهيئنا لما يضمره لنا لاحقاً.
تدفع الباب الخارجي وتدلف إلى الداخل في ذلك البهو الصغير المفضي لأرجاء المكاتب فتفاجأ بعالم مختلف تماماً تدخل معه في حالة أشبه بالصدمة. العمارة الداخلية هنا على طرف نقيض من توأمتها العمارة الخارجية. تتصادم فيها الفضاءات في زوايا قائمة وحادة مشكلة أجواء مفعمة بالحركية. يتوسط البهو في حركة استفزازية درج معدني يخترق الفضاء صعوداً في زاوية حادة. مواد البناء والتشطيبات الداخلية تكمل صورة التناقض التام بين العمارة الداخلية والخارجية. تصطخب داخل البهو والمكاتب المحيطة به سيمفونية من المسطحات الزجاجية والمعدنية تتقاطع معها في كل الاتجاهات أنابيب الإساتنليستيل المبرقة. ترسم في مجملها صورة مغايرة تماماً لعمارة المبنى الخارجية المتوحشة بالوقار وسمات العراقة.
نحس بالنظرة الأولى ونحن نقارن بين عملي كمال عباس وحيدر أحمد على بأن هنالك تباين واختلاف واضح بينها. لكن بعد وقفة تآمل نكتشف أن هناك إتفاق بينهما على أمر بالغ الأهمية، وهو السعي لإعادة الحيوية للعمارة ببعث روح الدهشة فيها. كل واحد منهم حقق ذلك الهدف بنجاح باهر وبنهج مختلف يبدو من أول وهلة لكأنه متناقض تماماً. كمال عباس جعل الكلاسيكي داخل الحديث. حيدر عكس الآية، فغلف الحداثة المعدنية المبرقة برداء كلاسيكي الهوى. في النهاية وفي كلا الحالتين وفقا تماماً معاً في صياغة عمارة عظيمة مشبعة بعنصر المفاجأة. نجحاً في إن يثبتا حقيقة مهمة للغاية، أنه ليس هناك ثمة إختلاف بين التوجهين بالرغم مما يبدو من تناقض. بإختصار شديد يمكن أن نقول ونحن نفحص هاتين الحالتين بأنه في كل واحدة منهما خير وكفى الله المؤمنين شر القتال.
البروفيسور مشارك دكتور معماري/ هاشم خليفة محجوب
أمدرمان أغسطس 2018
جزء من كتاب من تأليف الدكتور هاشم خليفة سيصدر قريباً بعنوان (العمارة السودانية: مواقف ومشاهد)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق