الرئيسية » » حكاية جسر شاهد على الثورة ضد الإستعمار

حكاية جسر شاهد على الثورة ضد الإستعمار

Written By Amged Osman on السبت، نوفمبر 04، 2017 | 7:38 ص

الأناضول   


حين أُغلق جسر "النيل الأزرق" التاريخي في العاصمة السودانية الخرطوم، "الشاهد" على الثورة ضد الإستعمار، ضاق الناس من تفاقم أزمة السير، ومن أكداس السيارات التي فاضت عنها الشوارع.

وتحولت العاصمة بمدنها الثلاثة "الخرطوم، أم ردمان، بحري" والتي يعد الجسر "سرتها" ونقطة ملتقاها، فساد بين الناس زعيق متواصل من أبواق السيارات، فالسير البطئ في لهيب الخرطوم الحارق جهنم تمشى على إطارات.

لم تتعثر حركة السير وحدها، بل تعثرت رياضة المشي في "ممشى الحوامل"، وهو ملحق خشبي شيد على حافة الجسر الغربية، لـ"تتمشى" النساء الحوامل من زوجات الطبقات الثرية، أما القطارات فلم تفلح السلطات في سد الجسر بوجهها.

نسوة الخرطوم كن يمارسن رياضتهن ويتفرجن من علٍ على العشاق في "كازينو النيل الأزرق" أسفل الجسر، قبل أن تطيح الأيديولوجيا بالكازينو الشهير، وقبل أن يطيح قرار "متعجل"، بعام من عمر عابري الجسر.

وحسب إفادات رسمية، فإن "الممشى" سيتحول إلى مسار ثان للسيارات، وذكرت هيئة الطرق والجسور بولاية الخرطوم أن المسار الجديد، سيخصص للمشاة والسيارات الصغيرة.

ويربط جسر النيل الأزرق الخرطوم والخرطوم بحري منذ 108 أعوام، ويعرف بـ"كوبري الحديد"، أو أحياناً "كبري الجامعة" لقربه وارتباطه بجامعة الخرطوم أقدم الجامعات السودانية (1902)، وهي من أعرق الجامعات في إفريقيا والشرق الأوسط.

المارة يقولون أن سلطات الولاية لم تراع كل هذا الحنين، وأغلقت الجسر في وجوههم، ابتداءً من 6 اكتوبر، لمدة عام كامل لأغراض الصيانة، وقالت إنها تحسَّبت لمعالجة الاختناقات المرورية المتوقعة.

وبلغ طول "كوبري الحديد" عند تأسيسه أكثر من نصف كيلومتر، ويتكون من مسارين لعبور السيارات والقطارات، أما الثالث فهو ممر للمشاة، وكان أهل الخرطوم يطلقون عليه "ممشى الحوامل".

قبل إغلاقه، أعلنت السلطات المحلية ترتيبات فنية لمواجهة الإغلاق، لكن حسابات الحقل لم توافق حسابات البيدر، فسال الزحام مدراراً في كامل المدينة، ولم تسع الجسور البديلة "المك نمر، والقوات المسلحة، والمنشية" حركة السير الكبيرة.

يقول المهندس الصافي أحمد آدم، مدير هيئة الطرق والجسور بولاية الخرطوم لـ"الأناضول" إن "جسر النيل الأزرق انتهى عمره الافتراضي، ومأمول من أعمال الصيانة الجارية منحه عمراً إضافياً قدرة 70 عاماً".

ويضيف: "لقد أوكلت الدراسات والاختبارات لشركات وطنية ودولية ذات خبرة وكفاءة، لتعمل على تأهيله بشكل شامل، بما في ذلك مراجعة حالته ومساراته وبنيته التحتية ومسار القطار وغيرها".

ويتابع: "الصيانة الجارية كبيرة ومهمة، وتحتاج لعام كامل لاكتمالها".

ويجزم: "روح المسؤولية الفنية والوطنية، أجبرتنا على اختيار التوقيت المثالي لبدء الصيانة والوقت الذي قد تستغرقه".

لكن التفسيرات الهندسية لم تفلح في إزالة الضجر من الزحام، فانتقل إلى المنتديات والمختصين، فعقدت "الجمعية الهندسية" الأسبوع الماضي بجامعة الخرطوم، ورشة لتبادل "الشكاوى والتوضيحات" الناتجة عن إغلاق الجسر.

وحمل وزير النقل الأسبق الفاتح محمد في حديثه لتلك الورشة، على السلطات للتأخر في صيانة الجسر، ما اضطرها لإغلاقه عاماً كاملاً، وتساءل: "لماذا لم تتحرك السلطات إلا بعد خراب الجسر".

وشن الوزير السابق هجوماً كاسحاً على وزارة البنى التحتية بولاية الخرطوم، وقال إنها أوكلت أعمال الصيانة لجهات غير معروفة.

وأضاف: "الشركة التي صنعت الجسر، تأسست عام 1877م موجودة، فلماذا لم تُعهد إليها صيانة هذا الإرث الهندسي التاريخي".

وتابع: "جسر النيل الأزرق يعد مفخرة إنجليزية، باعتباره الأطول والأجمل جنوب الكرة الأرضية، قبل قرن من الزمان".

بدوره، دعا خبير الجسور المهندس الطيب أونسة، الذي شارك في إعداد دراسة عن حالة الجسر في 1994 إلى إغلاق الجسر جزئياً، معتبراً "مشاكله مركزة في المداخل والمخارج".

وأضاف: "تحمّل الجسر قطارات العتاد العسكري البريطاني في الحربين العالميتين الأولى والثانية، و50 ألف سيارة يومياً، لذلك يمكن فتحه جزئياً بدلاً عن إغلاقه كلية".

وعكس مذهب خبير الجسور المهندس أونسة، يناهض المهندس آدم، فكرة فتح الجسر جزئياً أمام حركة السير، ويقول متحدثاً لوكالة "الأناضول" بلسان هيئة الطرق والجسور: "حتى القطارات، اضطررنا لوضع طريقة هندسية محددة، حتى لا يعوق عبورها الصيانة".

ويضيف: "هندسياً لا مجال لفتحه جزئياً أمام حركة السير العادية".

ولهذا الجسر حكاية، فقد أنشأته الحكومة البريطانية امتداداً لعملياتها الحربية لاسترداد السودان، وللانتقام من رجال الثورة المهدية الذين قتلوا الحاكم العام الجنرال "شارلس جورج غردون".

وزارة المستعمرات البريطانية طرحت عطاء لتشييد "جسر متحرك من الحديد"، يربط بين الخرطوم وموقع ترسانتها الحربية في الخرطوم البحرية، وليعبره القطار الحربي المحمل بالعتاد العسكري القادم من لندن والقاهرة.

ونشرت صحيفة (The Singapore Free Press) السنغافورية، الصادرة في 27 أبريل 1910، تقريراً عن "جسر السودان"، تناولت فيه مراحل تشييد الجسر.

وذكرت الصحيفة أن إرساء عطاء تشييد الجسر لشركة "كليفلاند" البريطانية جاء استجابة لاحتجاج الأوساط الصناعية البريطانية على منح تشييد جسر "نهر عطبرة" شمالي السودان لشركة أمريكية.


و"كليفلاند" من الشركات التي ساهمت في تشييد "جسر البسفور" في تركيا العام 1973، وهي متخصصة في تشييد جسور الفولاذ المتحركة، وفقاً لموقعها على الانترنت.

بدأت صناعة الجسر 1907 بكلفة 250 ألف جنيه إسترليني دفعتها وزارة المستعمرات على أيام رئيس الوزراء "آرثر جيمس بلفور"، وصممه المهندس "جورج أمبولت".

ونقل الجسر من الأسكندرية بالقطار إلى الخرطوم البحرية، وانتهى تركيبه في 1909م، بطول 560 متراً، ويبدأ من ترسانة صناعة السيارات العسكرية في الخرطوم البحرية، وينتهي شرقي قصر الحاكم العام الذي شيّده الأتراك 1830، ولازال الرئيس عمر البشير يحكم منه حتى الآن.

ولم توثق الصحيفة للجسور وحدها، بل حتى الحوادث التي شهدتها، وأشارت في ذلك إلى حادث دهس قتل فيه قطار إثنين من أهم رموز الإستعمار البريطاني في السودان "السكرتير القضائي ومدير المقاطعة الشمالية" على ذات "جسر النيل الأزرق".

ويحفظ وجدان السودانيين للجسر، أنه كان شاهداً ومسرحاً لأحداث ثورة 1924 المسلحة ضد قوات الاستعمار البريطاني، التي خاضها جنود سودانيون بقيادة البطل عبد الفضيل الماظ، ورسموا ملحمة بطولية ماتزال تردد مآثرها أغنيات البطولة والنصر.

النصب التذكاري لعبد الفصيل ألماظ دوار كلية الهندسة بجامعة الخرطوم

وتذكر وثائق سودانية أن قرابة 700 جندي بريطاني لقوا حتفهم أثناء محاولة القوة البريطانية منع عبور الثوار إلى الخرطوم البحرية، "لكن الكثرة غلبت الشجاعة"، فاستشهد الماظ وهو ممسك بمدفعه "المكسيم" في لوحة بطولية مشهودة.

سدت السلطات الجسر أمام حركة الناس، لكنها بالطبع لم تفلح في سد الجسر أمام حركة 14 نوعاً من "طيور النيل"، تتخذ من تجاويفه أعشاشاً في مواقيت تزاوجها وغرامياتها التي لا تحيد عنها.

ومن أشهر الطيور التي لم تنفذ قرار الإغلاق، وواصلت عبور الجسر: "اللقلق، مالك الحزين، أبو مركوب أو حذاء النيل، بمنقاره الذي يفوق رأسه حجماً"
شارك هذا المقال :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

 
Support : Creating Website | Johny Template | Mas Template
copyright © 2011. سوداكون - All Rights Reserved
Template Created by Creating Website
Proudly powered by Blogger