الرئيسية » » الحلقة الثالثة .. مستشفى الزيداب ... تحقيق وتصوير: عباس عزت

الحلقة الثالثة .. مستشفى الزيداب ... تحقيق وتصوير: عباس عزت

Written By Amged Osman on السبت، يناير 17، 2015 | 1:23 ص

تحقيق وتصوير: عباس عزت   

المنسي .. سلسلة تحقيقات أكشف لكم فيها سوداناً آخر غير الذي ترونه في الإعلام وتسمعون عنه في الأخبار .. السودان المنسي الذى يختفى فى ظلام الإعلام، يكابد مرارة الحال وشظف الواقع.. رحلة ما منظور مثيلا.. مشاهد ولا فى الأفلام.. صورتها لكم بقلمى والكاميرا التى لا تنفصل مني .. قبل قراءة التحقيق، أرجوكم تأكدوا من وجود صندوق مناديل الورق بجواركم لمسح الدموع .. دموع الحسرة على وطن يقتله الشقاء، والنعيم على ظهره محمول ..

مشروع الزيداب!!
هذه المرة من أول مشروع زراعي مروي بالقارة الافريقية ..إنه مشروع الزيداب المنسيّ .. حكاية تكشف إلى أي مدى نحن شعب يرقد فوق تلال من الذهب الخالص ولكن ( كالعيس في الصحراء ..يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول..)

في الحلقة الماضية سردت عليكم قصتي من الخرطوم حتى وصولي في طريق التحدي إلى البر الشرقي قبالة الزيداب.. حيث ركبت في (بكسي) محمل بالبضائع لمسافة خمسة كيلومترات .. إلى موقع (المشرع) حيث عبرت باستخدام مركب صغير بدلاً من انتظار (البنطون) الذي يستغرق زمناً أطول.. وأخيراً وصلت الزيداب محملاً بالتراب والغبار الذي سكبه على ملابسي وجسمي الطريق الوعر الترابي ..وحدثتكم فى الحلقة الثانية عن حجم الخراب الذى طال البيارة والمحلج..

هذه الحلقة من مستشفى الزيداب..
أتعمّد من خلال خبرتي.. جس نبض (المنسي) من سُوداننا في تفقد مرافق التعليم والصحة، في المقام الأول،لأنّها أساسيات الحياة التي توليها الدول المتقدمة أهمية كبرى، وتعد مؤشرا هاما فى تقييم تطور الدول، وبدونها تَرتد إلى غَيَاهِب عصور التخلف الإنساني..

سألت الاستاذ / عطا محجوب، دليلى فى منطقة الزيداب عن أحوال مستشفى الزيداب الريفى ..

التفت إلى الوراء نصف التفاتة وهو يقود دراجته النارية وسط الغبار الكثيف التى تثيره اللوارى المحملة بالفواكه فى طريقها الى البطون، وقال بصوت عالٍ كيما استطيع تبيّن كلامه وسط ضجيج محرك دراجته : (شبه مهجور .. بلا مرضى ولا أطباء) ، ثم استرسل قائلا: مستشفي الزيداب يشهد حالة من الإهمال والفوضي وشبح الموت يخيم عليه والإهمال وصل إلي العيادات الخارجية وغرف العمليات والأجهزة وجميع اقسام المستشفى.. و أصوات الاستغاثات تعالت في الفترة الأخيرة من الإهمال وسوء الخدمة الطبية بالمستشفي والفوضى فى تعيين ونقل الأطباء،وإن الطبيب يتم نقله بعد أقل من شهرين من استلامه العمل ..

وبعد مسيرة 7 دقائق تقريبا توقف أمام بوابة المستشفى وطلب مني النزول حتى أشاهد بنفسى لحظات احتضار المستشفى الذى بلغت فيه نسب اللا مبالاة أقصاها..

وصلنا الي مدخل المستشفي ، الذي تحيط به الاشجار.. كان غاية فى الروعة .. يبدو ان المهندس الذى رسم خارطة المسنشفى صمم المدخل بهذا الجمال، حتي تبتهج نفس الزائر ، ويهون على المريض ما هو مقدم عليه .. وبدت خلف الاشجار مبانى المستشفى ، هناك تشابه فى الهندسة والمعمار، ما بين مستشفى الزيداب الريفى و مبانى حقبة الاحتلال (البريطانى – المصرى) للسودان ..

وبعد تجاوزك هذا المشهد البديع فإن اول ما يلفت انتباهك الأسرّة الحديدية المنتشرة بكثافة بساحات المستشفى وتحت ظلال الأشجار،وأمام مداخل جميع عنابر المسنشفى.. ويقول مرافقى الأستاذ عطا : إن المرضى يهربون ليلا من لسعات أسراب البعوض التي يزاحمها المرضى فى العنابر..

جولة داخل أروقة المستشفى المهجور من المرضى والأطباء تستغرق 20 دقيقة، تبدأ من قسم الاستقبال، وتنتهى بالعودة إليه، دون أن تجد أحدا.. سوى ثلاث عاملات من المستشفى .. وجدت إحداهن تقوم بصنع الشاي بواسطة موقد بلدي يعمل بالفحم، أمام إحدى غرف المستشفى.. سألتها عن بقية العاملين بالمستشفى .. دلتنى على غرفة (استراحة) طاقم التمريض التى لا تبعد عنها سوى خطوات.. بعبور باب الغرفة الموارب يظهر سريران تتوسطهما طاولة صغيرة، لا يوجد بها أي من طاقم التمريض أو من ينوب عنهم، سوى قطة على شباك الغرفة تلهو بمقتنيات إحدى الممرضات التى تركت حقيبة يدها على نافذة الغرفة.. مزيد من الانتظار فى غرفة التمريض من أجل ظهور أحد العاملين بالمستشفى..

الانتظار يطول.. ولا يظهر أحد من الأطباء أو طاقم التمريض أو حتى المرضى.. طلبت من مرافقى ان نقوم بجولة صغيرة ونمشي بخطوات قليلة تكسر الصمت الذي يسيطر على المكان.. وأثناء جولتنا لحقت بنا إحدى الممرضات وهى تسأل عن هويتنا .. عرفتها بنفسي وأخبرتها عن غرضي من الزيارة.. تهللت اساريرها ورحبت بي معتذرة عن عدم وجودها بغرفة التمريض فى تلك اللحظة، لانشغالها بالمريضة الوحيدة التى تلازم سرير المرض بالمستشفى.. سألتها عن سبب خلو المستشفى من المرضى والعاملين .. فما كان منها الا ان طلبت مني أن أرافقها لبعض أقسام المستشفى وهى تقول : إن المستشفي يعاني حتي من عجز(قلة عدد) الممرضات وأطباء الامتياز ، حيث لا يوجد سوى طبيب عمومي واحد فقط، وهو ما يمثل مشكلة في الحالات الطارئة

و قالت ان المستشفى الذى أسس سنة 1962 يشهد تدهورًا مستمرًّا، سواء من عدم توافر العلاج المناسب والكافي للمرضى، أو تعطل وتلف معظم الأجهزة الطبية داخل أقسام المستشفى، مثل الأشعة والتحاليل ورسم القلب وغيرها وهو ما يضاعف من سوء حالة المرضى ، ويعتبر المستشفى الوحيد بالمدينة الذي يقدم خدماته لمنطقة الزيداب وعدد كبير من القرى، ولكنه يفتقد لجميع الخدمات العلاجية ، وأشارت إلى أن المستشفى غير مجهز لاستقبال الحالات الحرجة والتي يتم نقلها إلى مستشفي عطبرة، وهو كثيرا ما يكلف المرضى ثمنًا غاليًا، ثم أخذتنى إلى عنبر النساء والتوليد، عنبر طويل، يضم عددا من الأسرّة الحديدية البيض، بدون مراتب .. وأخبرتنى أنه مهجور ولا يعمل، وليس به طاقم عمل ولا أطباء، ولا يوجد به سوى الغبار على جدرانه وأرضياته ..

ثم أخذتني إلى غرفة التوليد التي بدت كأنها غرفة بإحدى مستشفيات القرون الوسطى، تكسو جدرانها ألواح السراميك المتصدعة.. السكون يسيطر على المكان، ضوء لأشعة الشمس يتسرب من إحدى النوافذ المفتوحة .. تتوسطها طاولة مهترئة تجرى فيها عملية الولادة وبالقرب منها سرير صغير ملطخ بالدماء يوضع فيه المولود الحديث،وبعد ان التقطت عددا من الصور للغرفة قالت لى الممرضة التى فضلت حجب اسمها : ان غرفة الولادة غير صالحة للاستخدام البشرى، وتفتقر لجهاز التعقيم ولا توجد بها حتى غلاية بدائية لتعقيم معدات العملية من مشارط ومقصات، ناهيك عن وجود جهاز حضانة المواليد ناقصى الوزن..

ثم اخذتنى الى عنبر الباطنية حريمات والذى يضم قسما للاطفال أيضا، وكان لا يختلف كثيرا عن بقية عنابر المستشفى.. المشهد نفسه .. عنبر طويل يضم عددا من الأسرّة الخالية من المراتب والمرضى وفى ركن قصى، بدت المريضة الوحديدة التي تلزم فراش المرض بالمستشفى وكانت تتناول طعاما تضعه على إحدى ترابيز المستشفى البالية، وعندما اقتربت منها قامت بتغطية وجهها في إشارة لعدم ترحيبها بى..

وفى هذه الأثناء حضر الشخص المرافق لها كما يبدو، وقال لى عندما علم أنني أمثل صحيفة التيار : على خلاف ما نسمع به من شعارات براقة من المسؤولين وهم يتشدقون بالقول :إن من حق كل مواطن الاستفادة من العلاج المجاني، وغيرها من الشعارات و الوعود الكاذبة لخدمات لا وجود لها على أرض الواقع بالمستشفى، وعند قدومك للمستشفى تتفاجأ بوجود طبيب عمومى واحد وفى غالب الاحيان ممرضين أو ثلاثة، وتصدمك مظاهر الإهمال التى يعاني منها مستشفى الزيداب، وهو يرفع شعارا يقول إن الفقراء ليس لهم نصيب فى الرعاية الصحية، لأن الاهمال هو الأساس في كل جوانب المستشفى ، وفى الوقت نفسه ليس هناك من يستطيع المريض الغلبان أن يشكو له، حيث يجزم المسؤولون بأن كل شيء تمام..

شكرته على إفادته متمنيا لمريضته عاجل الشفاء،وشكرت أيضا الممرضة التي رافقتنى في أقسام النساء والتوليد، بعد ان حضر أحد الممرضين عندما سمع بوجودى داخل المستشفى، وكان يحمل فى جعبته الكثير من المرارات.. سألته عن اسمه، إلا أنه ايضا فضّل حجب اسمه خوفا من بطش المسؤولين بوزارة الصحة ..

وابتدر حديثه قائلا: رغم أننا في الألفية الثالثة لكن ما زال اهالى الزيداب يعانون الأمرين ، فالمستشفى لايوجد بها جهاز للأشعة المقطعية وأشعة الرنين المغنطيسي ، مما يجعل العاملين بالمستشفى غير مهيئين لاستقبال حالات الإصابة فى الحوادث وغيرها، وإن قسم المناظير مغلق تماما لأنه لا يوجد بالمستشفى طبيب مختص لأداء تلك المهمة، وإن غرفة العناية المكثفة مجرد لوحة ( مكتوب عليها العناية المكثفة) وهى من الداخل مجرد حجرة أقل من عادية لا يوجد بها شىء سوى سرير واحد، مضيفا إن أغلب المعدات الطبية والأجهزة علاها الصدأ ، وباتت لا تعمل بسبب طول عهدها.. نعاني نقصا في الكوادر العمالية والأطباء .. عموميين واطباء اختصاصيين وأن معمل التحاليل الطبية متوقف عن العمل، وبنك الدم لاتوجد به ثلاجة، ولخص احتياجات المستشفى في: جهاز فحص الدم الكامل، جهاز رسم قلب، جهاز لفحص وظائف الكبد، جهاز لحساب التجلط،جهاز أشعة مقطعية، جهاز رنين مغنطيسي، وجهاز مايكرو سكوب إلكتروني، وختم حديثه قائلا: بإختصار شديد ان المستشفى سيئ للغاية وهناك عجز كبير في الأدوات الطبية والمستلزمات، وتسكنه الرطوبة ولا يستوعب بقدراته الضعيفة العدد الكبير من المرضي الذين يفدون اليه من مناطق وقرى الزيداب، لقد تحول المستشفي إلي مجرد محطة ترانزيت يبقي فيها المريض قليلا لحين الانتهاء من إجراءات تحويله إلي عطبرة.. وأصبح المستشفي خالياً من الأجهزة الطبية ومن المرضي، والعاملون يقومون بالتوقيع علي دفتر الحضور ثم ينصرفون ..

ثم أخذنى إلى غرفة العمليات ، تعلوها لافتة مكتوب عليها (ممنوع الدخول لغير العاملين)، وتظهر على أرضيتها بقايا عبوات الصبغة المسكوبة على الأرض وهى عبارة عن عنبر طويل، يضم غرفة للعمليات، وأخرى للتعقيم،ولكن كما يبدو أن المنطقة مهجورة و أن العملية لا تعمل، وليس بها طاقم عمل ولا أطباء.. وأثناء خروجنا من غرفة العمليات، استوقفنى أحد الأشخاص وتبدو على وجهه ملامح الغضب ، وقبل أن يسلم عليّ سألنى قائلا : من سمح لك بالدخول؟ أجبته بأننى صحفى وأبرزت له بطاقتى الصحفية، وشرحت له سبب زيارتى للمستشفى وتسليط الضوء على مشكلاتها وما تعانيه من نقص فى بعض جوانبها، ثم سألته من أنت؟ .. أجابنى بأنه أحد أعضاء لجنة المستشفى ، وأنه يتوجب على مقابلته أولا وأخذ الإذن منه،ثم أردف قائلا: (المستشفى نظيفة وجميلة ولا ينقصها شىء، وبها أطباء و ممرضون، و فنيون، و إداريون، و اختصاصيو أشعة)، مبرراً عدم وجودهم فى المستشفى بانتهاء مواعيد العمل وأن وجودى تصادف مع عطلة السبت..

جولتى داخل مستشفى الزيداب الريفى كشفت لى سوء مستوى الخدمة الطبية والإهمال داخل عنابر المستشفى وغرف العمليات والولادة، ولا يجب أن يفهم أعضاء لجنة مستشفى الزيداب أن هدفي الانتقاد، وإنما النقد، وشتّان بين النقد والانتقاد..
شارك هذا المقال :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

 
Support : Creating Website | Johny Template | Mas Template
copyright © 2011. سوداكون - All Rights Reserved
Template Created by Creating Website
Proudly powered by Blogger