الرئيسية » , , » المياه.. فشل سياسة وإدارة..!!..د. هاشم حسين بابكر

المياه.. فشل سياسة وإدارة..!!..د. هاشم حسين بابكر

Written By Admin on الخميس، يوليو 10، 2014 | 12:22 م

الإنتباهة

(1)

يتمتع السودان بموارد مياه كافية لتنميته وانتشاله من غياهب الفقر الذي غاص فيه ويبحث عن مخرج حيث لا مخرج..!!
والسودان من الدول القلائل في العالم التي لا يوجد بها قانون لحماية الثروة المائية، ومن هنا بدأت الكارثة حيث أن إدارة المياه أياً كان نوعها ريفيا أم حضريا لا تنطلق من قانون تعمل وفقه إنما ترك الأمر في هذا السائل الحيوي الهام والحياتي للأفكار المفاجئة «Sudden Thought»..!!
ولو تدبرنا الماء لوجدناه منزلاً إلهياً تكفل المولى عز وجل بإنزاله وحفظه، وقد مثل الماء عنصر تحدٍ من المولى عز وجل «أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون» وحتى حفظ الماء كان موضع تحدي «وأنزلنا من السماء ماءً فاسقيناكموه وما أنتم له بخازنين»
فيما تقدم نجد أن الماء منزل إلهي تماماً كما القرآن الكريم، والمنزل الإلهي يجب أن ينال من القدسية والاحلال والإيمان التي تؤكد على عظمة المنزل جل جلاله..!!
القرآن الكريم يجد منا كل الإجلال والتقديس فهو المعين الروحي للحياة، أما الماء فبالرغم من أنه المعين المادي للحياة إلا أنه لا يعامل معاملة القرآن رغماً أنهما منزلان من مصدر واحد ما فرط في الكتاب من شيء..!!
المولى عز وجل تعهد بحفظ الماء لعلمه التام بعجزنا عن ذلك، فكانت المحيطات والبحار والبحيرات والأنهار وباطن الأرض وسماؤها أوعية الحفظ الإلهي. وأعلم أنني ذكرت أحجام هذه المخازن الإلهية عدة مرات إلا أنني أجد ضرورة في تكرارها عسى أن يكون هناك من مدكر..!!
كمية المياه على كوكب الأرض تعادل 1.4 مليار كيلو متر مكعب، 97% من هذه المياه توجد في المحيطات. أما المياه العذبة فتقدر بـ 37 مليون كيلو متر مكعب، 75% منها يوجد في شكل جبال وأنهار جليدية، كما أن 8 ملايين كيلو متر مكعب من المياه العذبة مخزنة في جوف الأرض بالاضافة إلى 200 ألف كيلو متر مكعب من المياه العذبة في شكل أنهار وبحيرات.
أما المياه المتجددة فيتم تأمينها من الهطولات المطرية السنوية على الأرض وتقدر بـ 110 آلاف كيلو متر مكعب يتبخر منها 70 ألف كيلو متر مكعب ويسير نحو 40 ألف كيلو متر مكعب لتشكل الأنهار والبحيرات والمخزون الجوفي، قسم كبير من هذه المياه يتعرض للهدر في المصبات بحيث تذهب ما بين 9ـ 14 ألف كيلو متر مكعب وهي كمية كافية لسكان الأرض لو تم توزيعها بعدالة..!!
هذه هي المخازن الإلهية لذلك المنزل الإلهي والذي تحدانا المولى عز وجل بقوله «وما أنتم له بخازنين»..!!
مصطلح متعارف عليه عالمياً يسمى بالفقر المائي وقد تم وضع الحد الأدني للفقر المائي بألف متر مكعب في السنة، ومن هذا النصيب تأخذ الزراعة في البلدان النامية 95% هذا اذا اعتبرنا أن الصناعة ليس لها نصيب..!!
واذا أخذنا النسب المئوية للبلاد العربية من المياه فإننا نجد أن 35% من العرب يصل نصيبهم من المياه إلى اقل من 500 متر مكعب في العام، إضافة إلى سوء الادارة التي تهدد 50% من هذا النصيب الذي يتسرب عبر شبكات المياه وأعتقد أن هذا الأمر واقع تماماً كمثال حي في السودان وفي الخرطوم العاصمة على وجه الخصوص..!!
ومع هذه الصورة القاتمة نجد أن الحاجة الحقيقية للمياه في السودان بلغت في العام 2010 ثلاثين مليارات متر مكعب وفي العام 2020 ترتفع الحاجة إلى 47 مليار متر مكعب أما في العام 2030 فإن الحاجة ستقفز إلى حوالي 60 مليار متر مكعب..!!
واذا أردت اختصار الصورة فإن نصيب الفرد من المياه في السودان يقل كثيراً عن نصيب الفرد في القرون الوسطى في اوروبا حيث كان نصيبه يعادل 25 لتراً في اليوم..!!
عملت في الهيئة القومية للمياه الريفية وسكان الريف كانوا في ذاك الوقت يمثلون 75% من سكان السودان، ومن المؤسف أن سكان الريف يتحصلون على الماء بنسبة مخجلة حيث لا تزيد عن 4 لترات للفرد الواحد في اليوم، وهذا يؤثر كثيراً على اقتصاد البلد، حيث أن وجود المياه ووفرتها يؤثر إيجابياً على الاقتصاد حيث الثروة الحيوانية تتضاعف بوفرة المياه والرعي كما أن المحاصيل النقدية كالصمغ والذرة وهي محصول إستراتيجي يصعب حصادها لندرة المياه!!
إهمال المياه في الريف أدى إلى النزوح إلى المدن وحدثت عملية عكسية حيث تريفت المدن من جراء عمليات النزوح الأمر الذي فاقم أزمة المياه في المدن إضافة إلى ضعف السياسات المائية وضعف إدارتها الذي أدى إلى بلوغ الفاقد من المياه إلى 50% إضافة إلى ضعف التحصيل..!!
والسودان من الدول القلائل التي لا يوجد فيها قانون يحمي الثروة المائية رغم أنها من أعظم الثروات وأغلاها. يحدث هذا بالرغم من أن الأمم المتحدة تحث الدول على سن قوانين لحماية الثروة المائية، وقد حدث أن عقدت الأمم المتحدة مؤتمراً في لبنان بهذا الخصوص ودعت اليه البرلمانيين في البلاد العربية لمناقشة القوانين التي تحمي الثروة المائية في البلاد العربية، حضرت وفود البرلمانات العربية بما فيها البرلمان السوداني، كل الوفود التي أتت كانت مستعدة وقدمت تلك البرلمانات ما سنته من قوانين لحماية الثروة المائية وكانوا جميعاً ملمين بالموضوع الحيوي المهم عدا الوفد السوداني الذي لم يحدث أن ناقش مسألة حماية الثروة المائية بقانون، فحضروا المؤتمر وكان ذلك في العام 2006 وحتى بعدها لم تقدم في برلمان 2006 أو الذي أتى بعده هذه المسألة المهمة، واكتفى النواب حينها بنثريات السفرية!!!
رغم كل هذا نجد بعض كبار المسؤولين يمارسون زراعة الأوهام، بزرعاة ملايين الأفدنة دون ان يتوفر لديه أهم عناصر الزراعة الذي يمثله الماء..!!
حتى إن ذلك اصبح مجال تهكم لدى المزارعين البسطاء، حين زارهم مسؤول من بلدهم وكان يحثهم على الزراعة، فقالوا له ان الموسم الشتوي قد بدأ ونحن لا نجد الوقود الذي يُشغل المضخات، فقال لهم لقد حضرت قبل يومين من دولة كذا النفطية وقد وعدوني بمد السودان بالجازولين بعد شهرين، فكانت الإجابة الأكثر تهكمية على ذلك من أحد المزارعين «طيب خليهم يأجلوا الشتاء شهرين برضو علشان نحصل الموسم الشتوي».
نواصل

(2)

كما ذكرت في المقال السابق أن المياه تلعب دوراً أساسياً في حياتنا، وأن تطور أي بلد ونموه يعتمد اعتماداً كلياً على قدراته المائية، فإن توفرت هذه المقدرات كانت التنمية وكان الرخاء.. وعلى ذلك فقط قامت الحضارات على ضفاف الأنهار، وقص القرآن الكريم جاء بالكثير من الأمثال على ما أقول، وما قصة سد مأرب إلا يدل على ذلك..!!
لا تستطيع دولة أياً كانت أن تنمو وتخرج من خط الفقر إلا إذا تحسست مواردها المائية واطمأنت عليها فهي الثروة المتجددة التي يجب أن تحصرها أي دولة تريد النمو وتحسين المعيشة لشعبها..!!
كيف يمكن لدولة راشدة أن تضع ميزانية سنوية وهي لا تدري مقدرتها المائية وشعبها يعيش تحت خط الفقر المائي الذي جلب معه كل انواع الفقر الأخرى.. وأورد مثالاً على ما أقول، عندما كنت أعمل بالهيئة القومية للمياه الريفية كان هناك مشروع هولندي سوداني مولته هولندا، والمشروع نفذ في دارفور. قامت صداقة بين مدير المشروع الهولندي والمدير السوداني، وعندما اكتمل المشروع واصل الاثنان المراسلة بينهما، وحدث أن ذهب المدير السوداني إلى هولندا وقرر زيارة صديقه الهولندي ولما ذهب إلى مقر عمله ذكروا له أنه غير موقعه وانضم إلى حزب سياسي ووصفوا له المكان فذهب إلى دار الحزب ووجد صديقه هناك، ولكن ما لفت نظر الخبير السوداني أن المبنى كله وهو تابع للحزب السياسي، انما هو مركز دراسات مياه. سأل الخبير السوداني صديقه هل يمارس الحزب دراسات علمية للمياه وما علاقة السياسة بذلك؟
أجابه صديقه نحن هنا نرصد كل قطرة ماء في هولندا، إذ لا نستطيع تقديم ميزانية أو برامج تنموية ما لم يكن لدينا المعلومات الكافية لمقدراتنا المائية. إذ يمكن لأي حزب آخر أن ينتقد البرنامج الذي نزلنا به للناخبين أن يثبت للناخبين أننا نكذب عليهم، يستطيع أي حزب أن يسقط برنامجنا اعتماداً على أن البرنامج يفوق المقدرة المائية للبلاد..!!
أما نحن في السودان فالأمر مختلف تماماً، فأي نظام يأتي لحكم السودان يُعلن أول ما يعلن أنه سيقوم بزراعة عشرات الملايين من الافدنة، دون أن يكون لديه أية فكرة عن الامكانات المائية التي يمكن أن تحقق للنظام هذه الامنية المستحيلة..!!
لم يسلم النظام الحالي من هذا الوهم، فأعلن في بواكير أيامه في أحد المؤتمرات انه سيزرع ثلاثين مليون فدان، دون ان تكون له أدنى فكرة عن القدرة المائية للبلاد فزرع الاماني وحصد الوهم..!!
هذا ما يخص الزراعة أما الصناعة فحدث ولا حرج إذ يقوم المصنع وبعد افتتاحه تظهر أزمة المياه، والصناعة لدينا ضعيفة ومن اهم اسباب ضعفها ندرة المياه فالزراعة تأخذ ما يعادل «95%» من المياه المتاحة وتبقى «5%» للاستخدامات الأخرى بما فيها الصناعة. الجدير بالذكر أن الصناعة تستهلك في الدول المتقدمة ما يعادل «50%» من الامكانيات المائية بينما تستهلك الزراعة «40%» وتبقى العشرة في المائة لبقية الاستخدامات..!!
واذا كان استهلاك الصناعة للمياه أكبر من استهلاك الزراعة ففي السودان تبقى المشكلة وببساطة لا صناعة تذكر حتى لتلك المرتبطة بالزراعة..!!
ذكرت في الحلقة السابقة أن السودان من القلائل من الدول التي لا يوجد بها قانون لحماية الثروة المائية. ولو نظرنا عملياً للدول التي تحدث فيها كوارث الجفاف لوجدنا معظمها لا يحمي الثروة المائية بقانون، وفترات الجفاف تتعاقب علينا كثيراً، وحتى في زمن الأمطار الوفيرة تجد المواطن يعاني ذات المعاناة حين الجفاف فلا يجد ماءً صالحاً للشرب أما البرك التي تسببها السيول والامطار فتصبح مزارع للاوبئة الخطيرة والقاتلة، فالقانون ينظم استهلاك المياه حتى لا تحدث الندرة، كما انه يتيح زيادة المخزون المائي سطحياً كان أم جوفياً بالمنشآت التي تحفظ المياه كمخزون يرجع إليه حين الحاجة، لم تهتم الحكومات المتتالية لعمليات حصاد المياه إلا في نطاق ضيق جداً في شكل حفائر وسدود تجف المياه فيها في أشهر الصيف الأولى في انتظار أن تمتلئ هذا إن جاء الخريف..!!
يجب أن تكون هناك قوانين تنظم استخدامات المياه وأخرى تفرض حصادها فبالماء وحده تقدم الحياة الاقتصادية والازدهار..!!
أقول هذا وبين يدي نسب الهطولات المطرية والتي بلغت ألف مليار متر مكعب، وحسب معدل السريان «Runob Coebicenr» يمكن حصاد ما بين خمسة إلى عشرة في المائة من هذه الكمية، اعتماداً على نوعية التربة التي تجري فيها، بالحساب البسيط هذا يعني حصاد ما بين خمسين إلى مائة مليار متر مكعب، وهذا يتطابق مع ما ذكرته في المقال السابق حين قلت إن طبقات الجو العليا تحمل ألف ومائة كيلو متر مكعب يذهب منها سبعون ألف في المصبات أما الأربعون ألف الباقية فتذهب إلى البحيرات والأنهار الدائمة والموسمية، وعند الموسمية هذه يجب أن تكون لنا وقفة..!!
والوقفة مع الأنهار الموسمية ضرورة قصوى، فهذه الانهار تحمل كميات ضخمة من المياه وفي فترة زمنية وجيزة، وحين تبدأ السيول تغمر المياه كل شيء وتدمر القرى والزراعة في لحظات وحين ينتهي فصل الامطار يحل الجفاف فلا يجد المواطن من الماء الذي دمره ما يسد رمقه، سياسة بناء حفائر بأحجام متواضعة «ثلاثين ألف متر مكعب» في جو يتسم بالحرار المرتفعة يجعل من أربعين في المائة من تلك المياه عرضة للتبخر، كما ان نسبة مقدرة منها تغذي المخزون الجوفي، لذلك لابد من التفكير والدراسة لعمل بحيرات صناعية تستوعب النسبة المقدرة من هذه المياه، وكما ذكرت في المقال ا لسابق أن بحيرة تشاد تستوعب ستين في المائة من حجمها من وادي هور الذي يأتيها من السودان وبالتحديد من دارفور..!!
وفي السودان الكثير من المنخفضات التي كانت يوماً ما مجرى لأنهار وبحيرات وهذه المجاري تنشط في المواسم الممطرة، لذلك تجتاح القرى التي قامت على مجاريها وحجة إقامة القرى على تلك المجاري ان هذا الخور توقف قبل خمسين عاماً.. إن قضية المياه قضية شائكة وليست كما نصف الأمور السهلة فنقول «ساهل مويه»!!
نواصل

(3)

في بواكير تسعينيات القرن الماضي انعقد اجتماع بخصوص الهيئة القومية للمياه وكان الغرض من الاجتماع تنظيم إدارة المياه، وقد تم طرح إنشاء هيئة للاستثمار في مياه الشرب، وقد اعترضت على المبدأ، الاستثمار في مياه الشرب وذكرت فيما ذكرت طالما أن هناك مياه شرب يجب أن تكون هناك مياه صناعة ومياه زراعة ومياه للاستخدامات الأخرى، وهذا التصنيف غير موجود، ولو كان هذا التصنيف موجوداً لما كانت هناك مشكلة مياه بهذه الدرجة..!!
والمعروف في كل العالم هو تصنيف المياه، فمياه الشرب أكثر المياه تكلفة فاللتر الواحد منها يكلف في تصنيعه الكثير الذي لا يقدر عليه المواطن البسيط، كما أن المواطن يستهلك من مياه الشرب في أكثر الأجواء حرارة ما بين ثلاثة إلى أربعة لترات في اليوم، وإذا اعتبرنا سكان السودان بشماله وجنوبه ثلاثين مليوناً في ذلك الوقت لكفت محطة واحدة من محطات المياه في الخرطوم كل أهل السودان..!
وأضفت إلى ذلك أن الاستثمار الحقيقي يكون في مياه الصناعة والزراعة ومياه الاستخدامات الأخرى التي لا تحتاج لعمليات التكرير المكلفة، فالصناعة لا تحتاج إلى مياه معالجة بالشب والكلوريد وغيرها من المواد الكيميائية غالية الثمن، تبريد الماكينات لا يحتاج لمياه معالجة بنفس المعالجة التي تعالج بها مياه الشرب، لأن الماكينات لن تصاب بنزلات معوية أو فشل كلوي..!!
كما أن صناعة المواد الغذائية والأدوية تحتاج لنوع آخر من المياه تقوم هي بإعداده فمياه الشرب وإن كانت نقية لن تصلح لصناعة المواد الغذائية والأدوية..!!
وأضفت أن إدارة المياه يجب أن تحسب كم حاجة مياه الشرب وكم هي حاجة الصناعة وحاجة الزراعة وحاجة الاستخدامات الأخرى وعليها أن تنشئ خطوطاً لكل أنواع هذه المياه..!!
تصنيف المياه شرب وصناعة وزراعة يقلل من المواد المستخدمة في تكرير وتنقية المياه بنسبة عالية ربما وصلت إلى أكثر من ثمانين في المائة..!!
نأخذ مثلاً الخرطوم محطة سوبا تنتج «100» ألف متر مكعب ومحطة بحري التي لا تعمل حتى الآن يبلغ إنتاجها «300» ألف، محطة المنارة «200» ألف، جبل أولياء «68» ألف وتعمل بطاقة «40» ألف محطة شمال بحري «50» ألف ، بري «24» ألف يجري توسيعها لطاقة «85» ألف محطة المقرن «90» ألف بيت المال «30» ألف وأبو سعد «200» ألف..
كل هذه المحطات وغيرها تنتج مياه شرب أغلبها يذهب للصناعة والزراعة والاستخدامات الأخرى، كم يصرف على هذه المياه في حين أن محطة واحدة بسعة محطة سوبا يمكن أن تغطي كل احتياج الخرطوم من مياه الشرب، وتصبح بذلك مياه نقية وصالحة للشرب وبتكلفة أقل بكثير إذ يتم صرف مئات الملايين من الدولارات في السودان لمعالجة المياه والطلب العالي للكيماويات يفتح المجال لادخال كيماويات فاسدة الأمر الذي حدث بالفعل، والآن تكتظ مخازن هيئة مياه الخرطوم بعدة آلاف من هذه الكيماويات ولا تدري ماذا تفعل بها لأن إبادتها والتخلص منها يكلفان أكثر من قيمتها وهي صالحة..!!
وبسبب عدم وجود تصنيف للمياه ارتفعت قيمة المياه، هذا بالاضافة إلى عدم وجود تقديرات ودراسات تحدد الحاجة لمياه الشرب ومياه الصناعة والزراعة والاستخدامات الأخرى..!!
هذا إلى جانب استنزاف المخزون الجوفي في الولاية والذي بلغ السحب منه ما يقارب المائة مليون متر مكعب، وهذا السحب غير المرشد أدى إلى نزول المستوى الاستاتيكي «Static water level» بصورة مخيفة، واضرب مثلاً في ستينيات القرن الماضي كان ذلك المستوى ستين قدماً أما اليوم فهو ثلاثمائة وستون هذا في شمال الخرطوم..!!
فالسحب من المخزون الجوفي لا يوازي التغذية وهذا ما جعل الحفر عميقاً الأمر الذي يزيد في تكلفة الصناعة والزراعة وحتى في مياه الشرب..!
هذا الوضع سببه عدم وجود قانون يحمي الثروة المائية والتي هي من أعز الثروات. في ذات يوم انفجرت ماسورة المياه أمام منزلي وذهبت وأبلغت عن الأمر، فأتى عمال الهيئة وتم الحفر وإذا بي افاجأ بأن الماسورة الرئيسية من مادة الاسبستوس المحرم استخدامها دولياً وكما هو معروف ان الاسبتوس مادة سامة..!! وأمر آخر هو أن العاصمة تتوسع بشكل غير منتظم ولا تجد إحصائية دقيقة لعدد سكانها فالنزوح إليها مستمر وأهم أسباب ذلك النزوح هو شح المياه وفترات الجفاف والتصحر، وبهذا تصبح المدن وخاصة الخرطوم مدناً متريفة أي أصبحت العاصمة ريفاً ولعل أكثر مهنة يمارسها النازحون هي بيع المياه في العاصة المثلثة..!!
وعدم وجود إحصائية دقيقة لعدد السكان والمصانع جعل بجانب النزوح المستمر على العاصمة جعل من امدادها بالمياه أمراً أقرب إلى المستحيل منه إلى الواقع، ولا أدري كيف تعمل هيئة مياه الشرب كما أسموها وهي تستهلك سنوياً مئات الملايين من الأمتار المكعبة في حين يشكو معظم سكان العاصمة من شح المياه..!!
المعدل العالمي لنصيب الفرد من المياه يبقى «250» لتراً في اليوم، هذا المعدل قامت ألمانيا بتخفيضه إلى مائة وأربعين لتراً للحفاظ على مخزون المياه للأجيال القادمة، هذا بالرغم من أن معدل الأمطار هناك أعلى بكثير من عندنا بجانب ذوبان الثلوج الذي عادة ما يحدث فيضانات عارمة لكنهم مستعدون لمثل هذه الفيضانات ويعملون بجد لتقليل أخطارها للحد الأدنى والاستفادة منها للحد الأقصى.. في كل الأقطار التي زرتها وعملت فيها كان التعامل مع الماء كما لو كانوا يتعاملون مع مقدس، يتعاملون مع الماء.. رغم أنهم لم يقرأوا القرآن الكريم.. كهبة إلهية يجب التعامل معها بالحرص الشديد، فمثلاً في السويد كل القنوات ومجاري الأنهار يتعاملون معها بطريقة علمية تحافظ على نقائها وصلاحيتها لشرب الانسان، حتى أن ملك السويد صرح مرة أن أي انسان يمكنه الشراب من أية قناة في السويد حيث تؤكد السلطات هناك على صلاحيتها للشرب..!!
إن مفتاح التنمية في السودان هو الماء ذلك المنزل الإلهي الذي تكفل بإنزاله وجعله معين الحياة المادي وأنزل كذلك القرآن الكريم الذي كان معين الحياة الروحي، والخلل في معين الحياة المادي يؤدي إلى خلل اكبر في العقيدة والحياة فالمنزلان الإلهيان متلازمان..!!
كتبت ذات مرة عن التأصيل في المياه فسألني أحد الاصدقاء قائلاً وكيف يكون التأصيل في الماء، فقلت له إن الماء اقترن بالإنزال ولو نظرنا في هذه الزاوية نكون قد أصلنا له..!!

(4)

ذكرت في المقال السابق أنه أُتخذ قرار بإنشاء هيئة للاستثمار في مياه الشرب في إحدى الاجتماعات في تسعينيات القرن الماضي، وقد قلت في ذلك الاجتماع كيف يمكن الاستثمار في مياه الشرب والإنسان يستهلك في اليوم وفي أشد الأجواء حراً ما بين ثلاثة إلى أربعة لترات لشرابه في اليوم، وقلت إذا كان الامر هكذا فكل السودان تكفيه محطة واحدة من محطات التنقية التي تنتج ما يقرب المليون متر مكعب هذا اضافة إلى الآبار، وما كنت أقصد أن يكتفي السودان بمحطة تنقية واحدة كما فهم القارئ الكريم الأستاذ إسماعيل آدم محمد زين في موقع الراكوبة الالكتروني، إنما قصدت أن الاستثمار في مياه الشرب وهي الأقل استهلاكاً والأغلى قيمة ليس بالاستثمار الصحيح. كما لفت النظر إلى بقية أنواع المياه الاكثر استخداماً وهي الأكثر كمياه الصناعة ومياه الزراعة والاستخدامات الأخرى والتي تستهلك مياهاً كثيرة، هذه المياه التي ينبغي الاستثمار فيها ولم يرد أي حديث عنها. وقد ذكرت أيضاً أن المقترح غير موفق، وطالما ورد التصنيف للمياه فيجب ذكر الاصناف الأخرى، فمياه الشرب اكثر المياه تكلفة حيث تكلف تنقية لتر واحد مبلغاً كبيراً ولنا فيما نرى من أسعار ما يسمى بماء الصحة أكبر دليل على ما نقول. والذي يحدث هو أن جميع المياه التي تنتج في محطات التنقية تعامل بنفس المعاملة، فمياه الشرب هي ذاتها التي تذهب للصناعة وهي ذاتها التي تذهب للزراعة وهي ذاتها التي تستخدم في غسل الملابس والبيوت والشوارع وغسيل السيارات وفي البناء.
لهذا كانت تكلفة صناعة المياه عالية إذ كيف يمكن تنقية المياه التي تستخدم في الصناعة والزراعة والاستخدامات الأخرى بذات الدرجة التي تعامل بها مياه الشرب؟! كم من مواد التنقية تهدر وهي كيماويات غالية الثمن، وبعد هذا نشتكي من ان التعريفة يجب ان ترتفع، هذا إلى جانب الاهدار في هذه المياه إذ تنفجر الشبكة في الاحياء هذا إلى جانب ضعف الادارة في التحصيل، ويضاف إلى هذا سواء الصيانة إذ تنفجر الخطوط وتبقى تضخ المياه في الشوارع لعدة أيام دون ان يتم إسعافها؟! أذكر في ذات مرة أن تقدمت لإحدى كبرى المؤسسات الصناعية بإنشاء محطة تكرير عرضت فيها مياه شرب ومياه صناعة ومياه زراعة، ذكرت لهم في المقترح أن تكون هناك خطوط لكل نوع من هذه المياه، وكانت تقديرات الكيماويات  لديهم في مشروعهم المقترح ثلاثة آلاف طن سنوياً من الكيماويات بينما كانت تقديراتي السنوية لذات الكيماويات ثلاثمائة طن فقط لا غير، وكان المقترح المقدم لديهم يقول بإنشاء أحواض ثلاثة سعة عشرة آلاف متر مكعب من المياه النقية، في حين أن الاستخدام اليومي لمياه الشرب لا يتعدى المائة متر مكعب وقد اضفت خمسين متراً كإحتياطي!! ذكرت لهم أن فكرة تخزين المياه في أحواض وبسعة عشرة آلاف متر مكعب فكرة غير صائبة، فالاستهلاك اليومي لكل الاستخدامات لا يتعدى الألف متر مكعب، وهذه المياه في خلال اسبوع او اقل ستكون مورداً خصباً للذباب والناموس والبعوض الذي لا يتوالد إلا في المياه العذبة النقية، وأمر آخر وهو أن طبيعة الارض في تلك المنطقة هي ارض فوارة، الامر الذي يمكن ان يحدث شقوقاً في الاحواض فتتسرب المياه وتهدد المباني والمنازل.
إحدى الشركات تقدمت للعطاء وكان بحوالي ثمانية مليار بالقديم، وتقدمنا بعطائنا الذي كان بالتحديد بتكلفة ثلاثة مليارات وثمانمائة مليون ويحوي حوض التنقية وخزانات أرضية وعلوية لكل انواع المياه، زراعية كانت أم صناعية أم مياه شرب أم للاغراض المنزلية الأخرى ورغم ذلك رُفض عرضنا.
تقدمت مع بعض الإخوة الخبراء بمشروع للاستفادة من مياه فيضان نهر عطبرة والذي دائماً ما يفيض وتحدث اضرار مادية كبيرة، وتم تحضير خرائط جوية من الاقمار الصناعية وهي خرائط في غاية الدقة بيَّنا فيها مجرى قنوات من نهر عطبرة إلى المنخفضات المنتشرة في المنطقة وقد قدرنا الاستفادة من قناة واحدة بزراعة اكثر  من نصف مليون فدان، بالاضافة إلى مراعي تفوق مساحتها المليون فدان، ورغم ان المشروع تستفيد منه ثلاث ولايات هي كسلا ونهر النيل والبحر الأحمر حيث تتجمع قوافل الابل في تلك المنطقة إلى جانب الضأن، علماً بأن المنطقة هي في خط سير الابل إلى جمهورية مصر. رفضت النهضة الزراعية تمويل الدراسة بحجة أن الميزانية غير متوفرة، وذهبنا إلى صندوق تنمية الشرق وقد قابلنا مديره بكلام غريب حيث حددنا زمن الدراسة بثلاثة اسابيع، وقال لنا لن تستطيعوا اكمال الدراسة في هذا الزمن الوجيز لذلك رفض تمويل الدراسة. وكانت طموحاتنا اكثر من ذلك بكثير حيث قدمنا مشروعاً آخر أطلقنا عليه اسم النيل الصناعي العظيم، للاستفادة من مياه خور ابو حبل وحجز المياه بسد مع شق قناة من البحيرة المكتونة إلى وادي الشبيكي الذي يجري من جبال كردفان ويصب في النيل الابيض ويجري هذا الوادي ما بين شهرين وثلاثة اشهر في السنة وعمل سد في ذلك الوادي وشق قناة حتى وادي المقدم الذي يمكن عمل سد عليه، هذا المشروع يجعل المنطقة ما بين النيل الابيض والنيل والقناة عبارة عن جزيرة صناعية والاراضي هناك أراض خصبة يمكن زراعتها كما انه ينعش المراعي، في حال الفيضان الضعيف لاحد هذه الاودية يمكن الاستعانة بمياه فيضان النيل الابيض، كما ان هناك عشرات بل مئات الآبار في النيل الابيض غير صالحة للشرب لارتفاع درجة الملوحة فيها يمكن ضخها في هذه القنوات حيث تخف تلك الملوحة كثيراً وتصبح قابلة للشرب.
أحدث هذا المشروع ضجة في أوساط خبراء المياه والهايدرولوجي، وقد أثنى البروفيسور قنيف كثيراً عليه وعلى مشروع نهر عطبرة وقد طلب من النهضة الزراعية تمويل الدراسة ولم يصغ إليه احد وكانت تكلفة دراسة مشروع نهر عطبرة لا تزيد عن الستين ألف جنيه.. وكنت أدرك جيداً ومقتنعاً تماماً بأن الازمة في دارفور هي ازمة مياه بالدرجة الأولى وقد كتبت عن ذلك، واذكر انني قلت ان الازمة في دارفور هي ازمة مياه وقد تتحول إلى أزمة امنية وفي اطار تطورها ستصبح ازمة سياسية حينها سيصعب الحل، وقد ذكرت حديثي هذا عن تجربة، فقد كانت فرق الصيانة في الهيئة القومية للمياه هي الوحيدة التي لا تتعرض إليها عصابات النهب المسلح وقد كنت في مأمورية ذهبت فيها إلى نيالا والفاشر وجبل مرة، وايقنت انت الازمة في دارفور هي أزمة مياه. وقد أقنعت اثنين من خبراء المياه وهما البروفسير محمد خير صالح شفاه الله وعافاه، وخبير اقتصاديات المياه والاقتصاد بروفسير عصام عبدالوهاب بوب بتأليف كتاب شامل عن المياه في دارفور، وفعلاً تم اصدار الكتاب وهو الاول من نوعه في السودان وقد نال ثناء كلية العلوم قسم الجيلوجيا في جامعة النيلين، كما نال شهادة من وزارة الري من خبير المياه العالمي السيد كمال علي محمد وكانت هذه الشهادات كافية لاصدار إذن النشر. تم طبع الكتاب بتمويل من المركز العالمي للدراسات الافريقية والذي كان مسرحاً لندوات مشاريع نهر عطبرة والنيل الصناعي العظيم بالاضافة إلى ذلك الكتاب القيم كل هذا تم خلال ثلاثة أشهر من استلامي قسم الدراسات والبحوث في المركز. وذات صباح قابلني مدير المركز بخطاب تم فيه الاستغناء عن خدماتي!! وسكتُ عن الكلام المباح...
انتهى
شارك هذا المقال :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

 
Support : Creating Website | Johny Template | Mas Template
copyright © 2011. سوداكون - All Rights Reserved
Template Created by Creating Website
Proudly powered by Blogger