الرئيسية » » فلتسبح روحك في سلام "أبو النيل" .... صغيرون الزين صغيرون

فلتسبح روحك في سلام "أبو النيل" .... صغيرون الزين صغيرون

Written By Admin on الاثنين، فبراير 18، 2013 | 7:39 م

محمد فيصل عزالدين

حاولت كثيرا أن أصيغ مقدمة تليق بمكانته فأعجز وأيأس ثم لا ألبس أن أمزق ما اختطته يدي لأصاب بإحباط وضيق أمام تضاؤلي وعدم مقدرتي على الإيفاء بجزء يسير من حقوق هذا الرجل العظيم ولو بضع كلمات تعينني على وصف بعض من مآثره، فأفشل مرة أخرى وأظل أسير هذا الفشل لساعات، ثم أحاول متعثراً من جديد ولكأني في هذه الحالة من يريد أن يحول مجرى نهر عظيم زاخر بالخير وفيره إلى جدولٍ شيد على عجل فلم يحتمل السيل وانجرف.

إن عظمة الرجال هي وحدها إنجازاتهم الكبيرة التي تحكي عنهم. وحدها هي التي تستطيع أن تقيس بها قامة العلماء ما خلفوه من معارف وما تركوه من علم مدرار ينهل منه مستسقيه كلُ حسب حاجته وطاقته. نقوش وضيئة حفروها على كتاب الإبداع خلال مسيرة طويلة من البحث والعنت والعمل المضني المتواصل في تفاني وقدرة جبارة على نكران الذات والغيرية.

لقاؤك الأول به مصدر إدهاشٍ حقيقي لا ينفك يلازمك طيلة تواجدك معه، يخال إليك ليس للوهلة الأولى وإنما لأزمان لا نهائية وأنت في حضرته وكأنك والجٌ إلى عوالم من الخيال والإبداع الراقي الذي يؤطر ويوشح صورة ذلك الرجل الأسطورة. سنين العمر بطولها الرزين وما تركته من آثار ظاهرة على جسده النحيل لم تسلبه فخامة أصيلة في المظهر. وهن الذاكرة ينسحب خجلاً أمام تحدي ذكاء أخاذ لعالم مجرب خبر الحياة والعلم مبعثراً دفاف المراجع والأسفار مستنبطاً من واقع التجربة إثباتات جديدة وإضافات تم اكتشافها بالبحث العميق. تأسرك هيبة لا ينتقص منها تهذيب الصوفي الذي لم يجد إلى الحضرة النبوية من سبيل غير التواضع والانكسار. حديثه رقراق سهل يهضمه العقل دون عسر، الخطوط الأفقية العميقة التي حفرت عميقاً في محياه بفعل رهق الحياة وهموم العلم والعالم لم تستطع أن تهزم ما بداخله من روح فكهة وفوارة، تداعبك بيسر فتلامس شغاف القلب نسيماً هفهفاً رقيقاً. بصيرة متسعة وعبارة قصيرة مختزلة مفيدة لمعانٍ وجملٍ طويلة. درسٌ مهم في تقييم الوقت. ذكاء متقد لا تخطئه العين وهو يحول نظره غير المستقر من زاوية لأخرى تأدباً أمام محدثه وكأنه يختبر حقيقةً معلقة في بعد رابع لا يراها إلا هو، يمتحنها في إغماضة عينه التي استلفت مقدرتها على الرؤية من عدسة زجاجية سميكة أو مكبر للقراءة يحكي عن صبر وجلد على ملازمة الدرس والبحث وحب للعلم والتعلم خصم من رصيد بصره ليصب في رصيد علمه.

يستضيفك هاشا باشا في صالونه البسيط، الماء والعصير والتمر ضيافة لا تدانيها ضيافة في حضرته الكريمة وهو يحثك مرة تلو الأخرى مداعباً ان تأخذ حصتك من التمر لعلمه بخواء إمعائك وهو يسرد بعض الطرف التي تحاكي الموقف، ويرمقك بنظرة مشجعة فتمد يدك مبتسما وفي أريحية تشعر معها بالإلفة تتناول تمرة بعد أخرى، يسألك عن الأهل وعن الأسرة الممتدة التي يعرف الكثير من أفرادها - في هذا الوطن المتفرد- بحكم عمله الطويل الممتاز متنقلا في كل أقاليم السودان وربوعه، فهو ملم بعاداتهم وتقاليدهم واسماء كبرائهم وظرفائهم. يوليك نفس الاهتمام قل شأنك أو عظم، يعالج فوارق الأعمار في حكمة العارف وهو يحدثك عن الدين والسياسة والتأريخ والجغرافيا والعلوم والفلك والري. يتحدث عن السادة الخاتمية وأورادهم وهو يكن لهم الحب الكبير، ويهديك بعض من أذكارهم اليومية. هو موسوعة إذا تجولت معه في مكتبته التي افرد لها حيزا مقدرا في منزله، وكما قال الأديب بشرى الفاضل " تخرج من عنده هاشا باشا وكأن لديه مصنعا للفرح". فبإصراره الذي لا يترك لك مجالاً للمناورة تجده قد أخذ بيدك في حنو ودفء الوالد يصطحبك حتى باب منزله مودعاً ومرحباً في آن واحد طالباً تكرار الزيارة كلما سنحت لك الفرصة، لم يمنعه تقدم السن ورهقه من مؤانسة زواره والاهتمام بهم ومجاملتهم حتى اللحظة الأخيرة. 

كشأن كل القديسين حمل هم شعبه دون كلل، ولم يفت في عضده وهن العظم واشتعال الرأس شيباً، ما فتئ ينافح عن حقوق السودان في مياه النيل وهو عضو لجنة المفاوضات السودانية. اختبرت في عهد وزارته جودة الإدارة السودانية عندما تم التمكن من تجهيز خمسة عشر الف فدان لزراعة القمح في فترة خمسة عشر يوما وهي مدة قياسية أخذت كسابقة. أحب أهالي حلفا وسخريتهم وهم يطلقون عليه المهندس القادم من السودان ويقدمون له العون والسند وكيف لا وهو من جرت على يديه خيرات إنماء منطقتهم ببناء رصيف ميناء وادي حلفا. ولخزان خشم القربة قصةٌ أخرى تنبئك عن عبقريته الفذة التي جنبت خزينة الدولة آنذاك آلاف الدولارات، ليقف سداً منيعاً أمام إهدار المال العام، حتى تم معالجة الأخطاء الهندسية بالخزان دون أن يكلف شعب السودان فلساً واحداً مقتطعاً من لقمة عيشه. جاهد البرد والصقيع في سني عمره المتقدمة ذاهبا إلى روسيا في بحثه الدائم عن أسباب الدعة والرفاهية لبني وطنه من خلال ترأسه للجنة الفنية الاستشارية لسد مروي ومساهماته الفاعلة فيها، هذا السد الذي تفاخر به الدولة وتتخذ منه أهزوجة تتغنى بها كلما تحدثت عن إنجازاتها. كم مرة قطع الفيافي والوهاد حاملاً الوطن في حدقات العيون دون أن تعييه عن تحقيق تطلعات أهله وعثاء السفر والمرض والكبر. فكرة الإمداد عن طريق السكك الحديدية لتشييد السد كانت إحدى إبداعاته التي صقلها بالمعرفة والتمحيص مدهشاً بها مهندسي الحداثة. كان من أحلامه توصيل الماء إلى اهله في نهر النيل وري مزروعاتهم وزيادة مدخولهم، فكد في البحث والدرس وتوصل إلى أهمية تشييد سد السبلوقة. ما يئس ولم يقنط وهو يعرض فكرته المرة تلو الأخرى علها تجد أذنا صاغية. ومن خلال تدينه العميق وتفكره في دينه، كثيرا ما يربط ما بين العلم وتفسير آي القرآن الكريم، فكم مرة حدثنا عن استفادة المصريين في إنشاء السد العالي من قصة سيدنا يوسف عن البقرات السمان والسنين العجاف، هو عالم موسوعي بمعني الكلمة.

رحل كما العلماء في تواضع مهيب، في هدوء وسلام كما النسمة لامس وجوهنا الحزينة قبل جباهنا التي ارتسمت عليها علامات الفجيعة وهز أوتار قلوبنا ورحل... ودعنا وترك بصمة روحه تسكن بلطف دواخلنا وإلى الأبد... لم يكن في وداعه ملك وصولجان، لا ضوضاء ولا مهرجان... نحسبه إن شاء الله في رفقة العلي القدير خارجا ًمن هذه الفانية وللمرة الأخيرة كما دخلها أول مرة، وللمرة الأخيرة أيضاً كان في وداعه العلم والعلماء، الوجوه حزينة والقلوب مستغفرة وهو مسجى أمام أحبائه وتلامذته وأبنائه. وكما القمم العالية والنفوس الراضية المطمئنة وقف أبناؤه يستمدون ذلك الجلد النبيل من حب والدهم وحنوه وفلسفته العظيمة في التربية وشمائل الأخلاق.

إن تسويد مئات الصفحات في سرد مناقبه وما قدمه من إسهمات وخبرات على الصعيدين المحلي والإقليمي والدولي ما هي إلا محاولات بائسة تتكسر دونها عشرات الأقلام قبل أن تبلغ غايتها في توصيف مآثره الجمة. هذا العالم الفذ الخالد بعمله والعامر قلبه بحب الناس، المتدثر بدثار العلم، المتشح بوشاح التقوى والنقاء، لم يأل جهدا خلال مسيرته العلمية والعملية مهندسا فوزيرا في خدمة وطنه ورفاهية شعبه. قدم خبرته قربانا يتقرب به الى الوطن وعلمه صدقة جارية تكون له زاد الآخرة. حجز مكاناً سامياً بين العظماء والعلماء الذين ما بخلوا بعلمهم في سبيل إسعاد البشرية حتى نفذت أقدارهم.

في ليل يلفه الظلام تواترت الأنباء عن نبأ رحيل أحد ركائز العلم في البلاد... أبونا وأب النيل العالم الأستاذ المهندس صغيرون الزين صغيرون وزير الري السابق لحقبتين من الزمان. لم يحمل معه غير لقبه العلمي الاستاذ وياله من أستاذ وما أعظم المفردات والمترادفات التي تفسر معنى كنية أستاذ وكان استاذ وكفى، لم يكن يهتم بالألقاب، ولم تعن له شيئاً فالألقاب تسعى إليه سعيا لتلتصق باسمه وتتشرف به.

ألا رحمك الله عالمنا الجليل أستاذنا ومربينا ووالدنا صغيرون الزين بقدر ما أعطيت لهذا الوطن، وبقدر ما تركته من حب بين الناس بنقاء سريرتك وحسن سريتك، نسأل الله أن يلهمنا وأسرتك المكلومة الصبر والسلوان وحسن العزاء. " إنا لله وإنا إليه راجعون". صدق الله العظيم

السوداني
شارك هذا المقال :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

 
Support : Creating Website | Johny Template | Mas Template
copyright © 2011. سوداكون - All Rights Reserved
Template Created by Creating Website
Proudly powered by Blogger