بورتسودان مدينة يأكلها الصدأ ويقتلها العطش (2)
بقلم: د.م.م. أمجد عثمان عبد اللطيف
بينما يتمتع عموم أهل السودان بالماء والخضرة، يعاني أهل بورتسودان عناءً شديدًا في تأمين المياه التي جعل الله منها كل شيء حي، حيث تتجاوز كلفة الحمام الصباحي لعائلة بورتسودانية تكلفة فاتورة المياه خلال شهر كامل في معظم الولايات. لذا نجد أن أهل بورتسودان اتجهوا إلى حفر الآبار السطحية لتقليل كلفة المياه المرهقة، كما ذكرنا في المقال السابق. هذه الآبار، على طول عمرها، مهددة بمشكلتين: الأولى أنها قد تُقفل أو تتهدم، والثانية أن تختلط مياهها مع مياه الصرف الصحي الآسنة (تُصدر رائحة كريهة)، وهو ما يدعو للنظر في الأمر الصحي والبيئي الناجم عن مثل هذه الحالة.
مع وجود الرطوبة والأملاح في الجو والتربة، تنشأ بيئة صالحة لـ"الكربنة" في الخرسانة وتكوّن الصدأ في الحديد (السرطان بعينه).
**رطوبة + أملاح + هواء (أكسجين) = صدأ في الحديد.**
لذا تلاحظ انتشار الصدأ في المدينة على كل حديد لامس الهواء والماء (مثل اللافتات، والزنك، الكراسي وحتى أطباق الديجيتال). فيبدأ الصدأ بأكل الحديد، فنجد كمثال أن الزنك أصبح مخرّمًا كالغربال، مهترئًا هشًا مثل "طرقة الآبري الأحمر" في اللون والهشاشة.
ومع ملامسة الأرض، وفي المنطقة التي تلامس فيها الأعمدة التربة، ومع حركة الرطوبة صعودًا وهبوطًا، شهيقًا وزفيرًا، يدخل الأكسجين إلى الخرسانة المشبعة بالرطوبة والأملاح، فتعمل الطبيعة مبضعها بقسوة في الخرسانة ومنها إلى حديد التسليح، فيصدأ كما تصدأ القلوب. وبعدها، ينتفخ الحديد ويزيد حجمه ويضغط على الخرسانة من الداخل إلى الخارج، مهدّمًا الغطاء الخرساني الضعيف، فتترك الأعمدة وكأنها أعجاز نخل منقعر. فأغلب المباني يُنشئونها كما في الخرطوم دون تدقيق، بسمك 2 سنتيمتر للغطاء الخرساني، في حين تنصح كودات البناء بغطاء خرساني أكبر في البيئات القاسية قد يصل حتى 4 سم. فهو كالسرطان يتمدد في الجسم، فيتحرك داخل العضو الخرساني من مكان إلى مكان.
وليس بالضرورة أن يحدث الصدأ فقط في مستوى الأرض، بل يمكن أن يحدث في مستويات أعلى متى ما توفرت مسبباته (أملاح: موجودة في الجو، أكسجين: موجود في الجو، رطوبة). لكن يتفاقم ويتسارع الأمر بشكل كبير متى ما توفرت الرطوبة بشكل أكبر، مثل رش الأمطار، تراكم المياه بفعل المطر أو التسريب (الحمامات، المطابخ، تدفق صهاريج المياه، ماء المكيفات). وهو الأمر الذي تشاهده بوضوح في شرفات المدينة الصدئة، فإما تسقط وتُهلك (كما حدث في الخريف الماضي أيضًا)، وإما يأكل الصدأ أطرافها فيقوم أهلها ببترها كما يُبتر الطرف المريض، أو يمهلونها ولكن يتراجعون بمبانيهم من الطرف. بسبب سماكة الأسقف القليلة وسهولة تراكم المياه على سطحها، يبدأ الصدأ بالتأثير على صحتها وديمومتها، فتتقدم في العمر ويظهر المشيب (تشققات الخرسانة - hair cracks). ومع ظهور التشققات في الخرسانة، تدخل كمية أكبر من الرطوبة والأكسجين، وتتحرك الأيونات في تفاعل رطوبي-إلكتروكيميائي-ميكانيكي، فيمكن للسقف أن يصدأ بكامل مساحته ويسقط الغطاء الخرساني! وهناك تحذير واجب أن نسوقه في هذه المساحة، وهو لجوء البعض إلى استخدام السقوفات المستعارة متى ما ظهرت شقوق الصدأ في السقف. فهو أمر ديكوري لا يُسمن ولا يُغني من جوع، فعندما يبلغ الصدأ مبتغاه يسقط الغطاء الخرساني على رأس من تحته. فلك أن تتخيل كتلة خرسانية يمكن أن تزن اثنين أو ثلاثة كيلوغرامات على رأس إنسان... يمكن أن تذهب بحياته أو حواسه. الأمر خطير جدًا.
والصدأ أكثر سهولة بالنسبة للأعمدة الحديدية للافتات، فهي مكشوفة بلا حجاب، فيأكل الصدأ المعدن بكل أريحية حتى تسقط اللافتة صرعى مع أقل هبوب للرياح. في الخريف الماضي، سقط عدد مقدر من اللافتات مخلفًا وراءه جرحى وقتلى، لذا من الضروري المراجعة الدورية لهذه اللافتات، خصوصًا المميتة منها (اللافتات الكبيرة).
عند هذه النقطة، وصلت إلى قناعة أن تعبير "بورتسودان مدينة يأكلها الصدأ" كان أكثر شاعرية... لعل الأنسب أن نقول "بورتسودان مدينة يقتلها الصدأ"... فالشواهد كثيرة، والحوادث التي حدثت في الفترة الماضية ليست بعيدة عن الأذهان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق