الرئيسية » , » عبد المنعم مصطفى : العراب الوطنى لعمارة الحداثة السودانية

عبد المنعم مصطفى : العراب الوطنى لعمارة الحداثة السودانية

Written By Amged Osman on السبت، أبريل 28، 2018 | 7:07 ص

البروفيسور مشارك دكتور معمارى/ هاشم خليفة محجوب    
أمدرمان إبريل 2018 

ولد عبد المنعم مصطفى فى سنة 1930 بمدينة أمدرمان عاصمة السودان الوطنية. نشاء و ترعرع و عاش سنوات عمره الباكرة فى حى الركابية ذلك الحى الشعبى المتأخم لسوق المدينة. تشرب بأجواء و مدينة أمدرمان خلال فترة خصبة من تاريخها. تدرج فى مراحل دراسته الأولى هناك بنجاح و تفوق فيها. ساعده نجاحه و تميزه فى الإنتقال للمرحلة الثانوية التى درسها بمدرسة وادى سيدنا واحدة من ثلاثة مدارس مميزة أسسها المستعمر على نهج مدارسه. تلقى عبد المنعم تعليماً ممتازاً أثر كثيراً فى بلورة شخصيته من كل النواحى و هو فى ذلك العمر الغض. أرى أن تلك التجربة لعبت دوراً مؤثراً فى تشكيل شخصيته المعمارية.

تفوقه فى الشهادة السودانية فتح له أبواب الدراسة بجامعة الخرطوم الوحيدة فى السودان زمانئذ. فى بداية دراسته هناك فى نهايات العقد الخامس واتته فرصة إبتعاث لمواصلة دراسته بالمملكة المتحدة. منحته الفرصة لدراسة العمارة بجامعة ليستر البريطانية كأول حالة من نوعها. درسها هناك مع ثلاثة من زملائه السودانيين كانوا و لفترة طويلة من الزمان أول مجموعة من المعمارين تخرجت من الجامعات الغربية.

حل عبد المنعم مصطفى بتلك الديار و قد إجتاحتها موجة الحداثة مع باقى أجزاء الغرب الآوربى. إندمج ذلك الشاب الوسيم مع تلك الأجواء و صار جزءاً أصيلاً منها و تطبع بنمط  الحياة و الثقافة الغربية. لدرجة أنه إقترن بواحدة من حسناواته التى إنتقلت معه للسودان بعد تخرجه. عاشت معه هناك لعدة سنوات و أنجب منها عدد من الأطفال. أعتقد جازماً أن هذه الجزئية من سيرته و مسيرته كانت مؤثرة للغاية فى بلورة مفاهيمه العامة التى ترجمها فى أعمال معمارية بالغة التميز. عندما حمل مشعل عمارة الحداثة لينير به الدرب و يأسس لها فى السودان فى بداية الستينات كان مشبعاً بروح الحداثة.

 تزامنت فترة دراسة عبد المنعم مصطفى فى جامعة ليستر مع تصاعد أسهم عمارة الحداثة إلى أعلى درجاته. عزز من ترسيخ مفاهيمها المتغيرات العامة الشاملة التى سادت فى الغرب الآوربى زملنئذ. بداء دراسته هناك و هو متسلح بمستوى أكاديمى متميز و مقدرات فنية عالية  مكنته من إستيعاب مفاهيم توجه عمارة الحداثة بشكل معمق. ساعدته خلفيته الأكاديمية المجودة  و إحساسه الفنى المتقدم لأحقاً فى لعب دور أساسى ريادى عند عودته للسودان فى بداية العقد السادس من القرن الماضى.

جائت عودة عبد المنعم مصطفى فى آوانها إذ كانت البلاد حقبئذ تمر بمرحلة مفصلية شكلت العمارة جزءً مهماً من مكوناتها. فالسودان بعد نيله للإستقلال فى منتصف الخمسينات كان يتطلع لإحتلال مكانه بين الأمم المستقلة و كان يحتاج لمساهمة بنيه لتحقيق هذا الهدف. وصل عبد المنعم مصطفى مع أطياف من الشباب السودانيين تأهلوا فى الجامعات الغربية فى عدد من التخصصات العلمية. يحدوهم أمل كبير فى صياغة سودان جديد مستقل يشمخ بين الدول المتقدمة. و لقد كان لعبد المنعم دور متقدم فى تحقيق هذا الكسب. 

عاد عبد المنعم للسودان و إستقر به المقام فى بداية حياته العملية فى بداية الستينات بوزارة الأشغال العامة. كانت   كما أسس لها المستعمر من قبل راس الرمح فى مجال العمل الهندسى و المعمارى. أوكلت لها بالإضافة لمهامها الأخرى مسئولية تصميم كل المشاريع الحكومية. لعب قسم التصميم المعمارى دوراً مهماً فى هذا المجال، و مالت أعماله فى تلك الفترة نحو الحداثة. جاء إلتحاق عبد المنعم بالقسم و هو مشبع بفكر و روح عمارة الحداثة معززاً لتوجهات القسم الجديدة. لكن الوقت أثناء فترة عملة بالوزارة لم يسعفه لترجمته فى  شكل عمل كبير أو مهم. إستغل وقته الخاص خلال تلك الفترة ليأسس لبداية عمل إستشارى خاص.

كان عبد المنعم خلال تلك المرحلة يتحسس طريقة محاولاً أن يقدم الطراز الحداثى عبر رؤيته الخاصة.  لم يكن الطريق زمانئذ مفروشاً بالورد و الياسمين إذ كانت الأفكار و الملامح الكلاسيكية لا زالت سيدة الموقف. كانت جل أعماله فى تلك المرحلة سكنية. بيوت أصدقائه من المهنيين و أستاذة الجامعة بعضهم زامله خلال فترة دراسته ببريطانيا. مهدت له خلفيتهم  الطريق ليقدم رؤيته و أفكاره الحداثية، إذ كان كلا الطرفين يبث على نفس الموجة same wave length. بذلك وضع عبد المنعم اللبنة الأولى للتأسيس لعمارة منزلية توظف النقلة النسبية فى إنشاءات و مواد البناء. و تستوعب معها أيضاً بعض المتغيرات الثقافو- مجتمعية.

تعامل عبد المنعم مصطفى مع هذه الشريحة المجتمعية سهل عليه أموره. كان جل من صمم لهم قد مر تجربة الحياة الغربية خلال فترة إبتعاثهم فى بريطانيا أو آوربا، و بعضهم كات مقترناً ببريطانية. فى تلك الأطر تتطبعوا لحد ما بطبيعة الغربيين. يجب أن  لا ننسى أن تلك الشريحة من الشباب المستنير كان فى ذهنه المسئولية الملقأة على عواتقهم بالنهوض بالسودان و قد تحرر من ربقة الإستعمار إلى مصاف الدول الحديثة. العبور به لتحقيق هذا الهدف يعنى تبنى رؤى حديثة و السير على نهجها. و هى أهداف عامة خلال تلك المرحلة توافقت عليها طوائف عديدة. عمارة عبد المنعم مصطفى فتحت لهم الطريق نحو هذا الهدف.


عمارة بيوت عبد المنعم مصطفى لتلك الشريحة المستنيرة من المهنيين لم تكن مجرد خرائط. كانت حداثية فى مجملها و بكل تفاصيلها. النقلة لم تكن فقط فى الخارطة التى أستوعبت المتغيرات المجتمعية و الثقافية و القيمية فى تلك المرحلة المفصلية من تاريخ السودان الحديث. فعمارة الحداثة جائت كحزمة أهم ما فيها رؤيتها الجمالية. ما عادت فى هذا الجانب تتكى على تلك المفردات التراثية من أقواس و أعمدة مزخرفة شبية بالمحسنات البديعية فى الشعر القديم. سر الجمال فيها كامن فى حسن النسب و التناسب و التناغم بين أجزاء المبنى.



عمارة بيوت عبد المنعم لتلك الشريحة من المستنيرة من عملائه جائت فى سياق مفاهيم عمارة الحداثة. إلتزمت بشكل صارم بضوابطها. خلت تماماً من أى إشارات للعمارة الكلاسيكية من أقواس و أعمدة مزخرفة. أنزل بحسه الفنى العالى مفاهيمها ببراعة فائقة. تجلى ذلك فى أروع صوره فى تعامله بحساسية عالية مع النسب. بالإضافة إلى ذلك أكسب عمارته حيوية دافقة من خلال توظيفه لعملية التناغم. الحوار بين الكتلة و الفراغ و بين أسطح خشنة و أخرى ناعمة الملمس جعل العمارة تنبض و تنضح حسناً. فقدم مشروعاً  جمالياً متكاملاً. حل محل ما كان سائداً من قبل عندما كانت الجماليات تقوم على مكونات و مفردات متنافرة، أشتات منقولة حرفياً من عصور سالفة.



الواضح أن هناك عدة عوامل يمكن أن تفسر لنا سر إنجذاب شريحة المهنيين من عملاء عبد المنعم مصطفى نحو مشروع  عمارته الجمالى. قد تكون تجربتهم فى العالم الغربى قد ساهمت فى التأثير على زائقتهم الفنية و مزاجهم. مما لا شك فيه أن معالجاته المعمارية و الواجهات محكمة التصميم مفرطة الأناقة كانت واحدة من من أهم العوامل الجاذبة بالنسبة لهم. شكل العمارة جاء متسقاً مع العديد من جوانب نمط حياتهم العصرية و منها أزيائهم غربية الطراز. من المرجح أن تهافتهم و إقبالهم على طابع عمارته مرده أنها قدمهم للمجتمع بالصورة العصرية المعبرة عن رؤيتهم. 

لم تطل فترة عمل عبد المنعم مصطفى بوزارة الأشغال. واتته الفرصة بعد بضع سنوات من عمله هناك للإلتحاق و العمل كمحاضر بقسم العمارة الوليد بكلية الهندسة بجامعة الخرطوم. أسس القسم فى نهاية خمسينات القرن الماضى مجموعة من الأساتذة البريطانيين. قام منذ بداياته الأولى و لعقود عديدة بعد ذلك على مفاهيم الحداثة الغربية. كان لعبد المنعم وضع خاص وسط هذه الكوكبة من الأساتذة بإعتباره أول سودانى يتخرج من جامعة بريطانية. مهد له الطريق لخطوة مهمة فى مسيرته العلمية و المهنية معاً إذ عين فى نهاية الستينات كأول رئيس قسم سودانى.

شكلت له هذه الفترة مرحلة مهمة فى بلورة مفاهيم عبد المنعم مصطفى المعمارية. كانت أيضاً مرحلة مفصلية شهدت بداية التأسيس الجاد و تدشين عمارة الحداثة السودانية. ساهمت فيها بشكل مؤثر و فعال تلك الكتيبة من أساتذة قسم العمارة معززة بأميز الخريجين من الدفعات الأولى. منصة الإنطلاق الأولى و الأهم كانت مواقع جامعة الخرطوم الموزعة فى مدن الخرطوم الكبرى الثلاثة. لم يكن نصيب عبد المنعم كبيراً فى منظومة المبانى التى طرزت تلك المواقع . إلا أن دوره بلا شك كان مؤثراً من واقع دوره الريادى و القيادى و بإعتباره أول رئيس سودانى لأول قسم لتدريس العمارة.

وضع عبد المنعم مصطفى فى جامعة الخرطوم فتح له الأبواب للإنتشار. أعماله المعمارية كانت لا زالت فى تلك المرحلة جلها سكنية الطابع مع بعض تطور و تبدل فى نوعية من تعامل معهم. أضيفت لطبقة الصفوة من المهنيين شريحة من نجوم العاصمة الجدد، رجال أعمال من أثرياء المدينة الذين وفدوا إليها حديثاً. شكلت هذه المرحلة نقلة نوعية لعبد المنعم نسبة لإختلاف خلفية و ذهنية عملائه الجدد. ذلك التغيير لم يكن على حساب قناعاته الراسخة و نهجة الحداثى، إذ لم يحاول التنازل عنها إرضاءَ لمزاجهم المتجزر فى خلفيتهم التقليدية.

من أهم جوانب و مسيرة عبد المنعم مصطفى أنه نجح فى إقتحام عالم تلك المجموعة من أثرياء المدينة الجدد فى نهاية الستينات. إذ صار لبعض مجموعاتهم الأسرية هو معمارى الأسرة فى حالة أشبه بفكرة طبيب الأسرة المعمول به فى مجال الخدمات الطبية. الأمثلة عديدة لعل من أبلغهها حالة بيوت آل أبراهيم مالك و شيخ النفيدى المتمركزة بحى الخرطوم إثنين غرب السوق. مجموعة بيوت أسرة عبد القادر حاج الصافى الموزعة فى الركن الشمالى الغربى من حى الصافية بالخرطوم بحرى تمثل حالة أخرى. من الحالات التى ظهرت فى زمان لاحق مجموعة بيوت و فيلات آل الخبير فى الطرف الغربى لحى الطائف جنوب مبنى رئاسة شركة سكر كنانة.

تعامل عبد المنعم مصطفى فى مثل هذه الحالات مع شخصيات و أسر مختلفة فى تركيبتها عن مجموعة الصفوة من المهنيين الذين كان يقدم لهم خدماته فى بداية مسيرته. حالات تمثل عينة جديدة عليه من حيث الخصائص الثقافية و المجتمعية و ذات نزعة محافظة أدخلته فى تجربة جديدة. طبق عليها مفاهيمه الحداثية لكنه تعامل معها بذكاء مفرط و حساسية عالية. نجح فى النهاية فى إستيعاب متطلباتهم القيمية و نمط حياتهم المحافظة فى قوالب معمارية حداثية.

نحى عبد المنعم مصطفى منحاً جديداً فى تعامله مع تلك الشريحة التقليدية من الأسر الكبيرة. تعامل مع متطلباتهم القيمية و حرصهم الشديدة على الخصوصية بعدة طرق. لجاء للتنطيق الأفقى و الراسى للمباعدة بين الجزء الخاص بالأسرة و مرافق إستقبال الضيوف من الرجال. لجاء لحيلة أخرى لتأمين قدر عالى من الخصوصية. إستعان بكاسرات أشعة الشمس فى الواجهات. فوظف الحوائط المخرمة المشيدة من الطوب او مكعبات الأسمنتية. إستعان أحيناً بالمرائن و المدادات الخشبية و زوى الحديد لحجب رؤية المتطفلين. أمنت تلك الكاسرات الخصوصية و منعت تسلل أشعة الشمس و أضفت جمالاً على الواجهات.

مساحات كاسرات الظل التى كانت تطرز واجهات عمارة عبد المنعم مصطفى السكنية صارت بمثابة الماركة المسجلة. بالرغم من منحاه الحداثى يبدو إنه قد أستوحى فكرتها من المشربيات. تلك الستائر الخشبية المخرمة، التى كانت تثبت فى نوافذ بيوت العمارة الإسلامية فى زمان سالف. من أهم ما تميزت به عمارته السكنية إنك لن تجد جزءً منها مكشوف بشكل يجترح خصوصية أهل الدار. أتأمل فى هذا الجانب و أرده دائماً لنشأته الأولى فى ذلك الحى الأمدرمانى الشعبى. إنجذابه للعالم الغربى فى زمان لاحق لم ينجح فى إقتلاعه من جذوره. أعظم ما فى شخصيته أن كان يعانى من حالة إنفصام شخصية حميدة. شخصيته متجزرة فى أجواء أمدرمان و روحه تهفو لأعلى أفاق الحداثة. نجح عبد المنعم فى الجمع بين النقيضين.

أشرنا من قبل لأن عبد المنعم مصطفى فى إطار تصميمه لبيوت عملائه من الأسرة التقليدية بأنه لجاء لعملية التنطيق لتأمين أعلى درجة من الخصوصية. تحضرنى فى هذا السياق حالة تعامل على مستوى كبير و واسع. ليس فى إطار قطعة سكنية واحدة و إنما مربع سكنى كامل.  الإشارة هنا لمجمع او مجموعة بيوت الشيخ إبراهيم طلب بحى الميرغنية بالخرطوم بحرى. المجمع يتكون من عدة وحدات كبيرة بعضها فيلات ضخمة أشبه بالقلاع. تعامل عبد المنعم هنا من حيث التخطيط العام فى المربع السكنى و توزيع وحداته جاء لكآنه مستوحى من واقع حياتنا التقليدية. الحالة هنا أشبه بأنموذج لبيت أو حوش الأسرة الكبير فى الريف السودانى.

واحدة من تلك الوحدات أو القلاع هى بيت الشيخ إبراهيم طلب و تقع غربها وحدة مشابه مخصصة لنساء أسرتة و ضيفاتهم. فى الركن الجنوبى الغربى وحدة أو قلعة مماثلة هى بيت أخ الشيخ إبراهيم. تنهض فى الواجهة قرب الركن الشمالى الشرقى مضيفة كبيرة من طابقين أشبه بالديوان فى بيوتنا التقليدية. هذه الحالة فى حى الميرغنية تشابه تلك البيوت لكنها مضخمة للغاية من دون أن ينفرط عقد اتلك المنظومة. فعبد المنعم مصطفى هنا أرضى طموح تلك الأسرة الريفية القادمة من أقاليم السودان فقدمها لمجتمع العاصمة من خلال بيوت عصرية التصميم.   لكنه فعل ذلك من دون أن يضحى بروابطها الأسرية الوثيقة و نهج حياتها المحافظ.

الواضح أن تجربة عبد المنعم مصطفى مع هذه الشريحة المجتمعية التى تعامل معها لأول مرة حققت درجة عالية من النجاح. هنالك أكثر من مؤشر يدلل على ذلك الحكم. من علامات الرضى أنك لن تجد أثراً ملموساً لتعديلات جزرية أدخلها أصحاب البيوت لاحقاً. من المؤشرات المهمة أيضاً أن البيوت و الفيلات التى صممها لهم فى البداية لعبت دوراً مهماً. إذ ساهمت بشكل مؤثر فى الترويج لعمارته فى أوساط تلك الشريحة المجتمعية من عملائه الجدد. جلبت له المزيد منهم و صار بمرور الزمن هو المعمارى المفضل لتلك الطبقة من أثرياء المدينة الجدد ذوى الخلفيات التقليدية.

تجربة هذه الحالات المثيرة للإهتمام تحتاج لدراسة معمقة. فيها جواتب مجتمعية ثقافية بالغة الأهمية. نحتاج مثلاً للتعرف على الجوانب المعمارية التى جذبت إهتمام تلك المجوعة فصار بعد ذلك معمارى الأسرة. من المهم أيضاً التعرف على أثر العمارة الحداثية على حياة تلك الأسر التقليدية. كل تلك الأسئلة الفرعية فى النهاية يمكن تجاوب على ذلك السؤال الكبير المهم المتعلق بالدوافع الرئيسة و السمات الملامح التى دعت هذه الشريحة المجتمعية للتهافت على عمارة عبد المنعم. أتطوع فأقدم إجابة على هذا السؤال أملاً فى أن يتم إخضاعها للنقاش. أرى أن السبب الرئيس لتعلقهم بعمارته أنها نجحت بشكل جيد فى تقديمهم لمجتمع العاصمة.   

 مرت مسيرة عبد المنعم مصطفى بمنعطف جديد مع بداية السبعينيات. إستقال من قسم العمارة بجامعة الخرطوم و أسس مكتبه الخاص. إنتقل من مجال تعليم العمارة ليقتحم مجال الممارسة المهنية ليلعب نفس الدور الريادى المؤثر. تزامنت تلك الفترة مع مرحلة و منعطف سياسى مهم للغاية كانت له إنعكاساته على شتى مناحى الحياة. شهدت نهاية الستينات تفجر ما كان يعرف بثورة مايو التى أسست لها نظاماً سياسياً حكم البلاد لمدة ستة عشر سنة. شكلت تلك التطورات السياسية أرضية ممتازة للعمل فى مكتب عبد لمنعم الإستشارى، و شهد حركة نشطة أثمرت عدة مشروعات مهمة.

وفرت تلك التطورات الأرضية مرحلة منعطف مهم و نقلة نوعية فى مسيرة عبد المنعم مصطفى المعمارية. كان مكتبه زمانئذ من أوائل المكاتب الإستشارية. وضعه الريادى و القيادى و سيرته الذاتية المطرزة بالإنجازات عززت من موقفه فوضعته فى المقدمة. أهلته تماماً للتعامل مع المشاريع الكبيرة و المهمة بعد بارح البلاد الإستشاريين الأجانب المنافسين. كل هذه العوامل معاً هيأت مكتبه للإضطلاع بأدوار مهمة للغاية.

أحدث نظام ثورة مايو خلال سنواته الأولى حراكاً كثيفاً فى مجال التنمية. تنامى معه أيضاً دور السودان كلاعب مهم فى إقليمه. تلك التطورات كان لها دور مؤثر فى تحريك العمل فى مجال المشروعات الكبيرة. إعداد مكتب عبد المنعم مصطفى الإستشارى و تأهيله العالى جاء فى وقته متزامناً مع بداية تلك النهضة المتوقعة. فكان له كان نصيب الأسد فى العمل الإستشارى للمؤسسات الكبيرة. تلك التطورات الإيجابية فتحت له الأفاق لتجاوز مرحلة العمارة السكنية التى إستمر يبدع فيها مطوراً إسلوبه الخاص المتميز.   

 أكرمتنى الظروف بأن أن أكون جزءً من مكتب عبد المنعم الإستشارى و قريب جداً منه خلال تلك الحقبة و المنعطف المهم من مسيرته المعمارية. فى هذا الإطار تعرفت عن كثب على مجمل أفكاره و شهدت ميلاد أهم أعماله خلال تلك المرحلة. تعتبر تلك الفترة هى مرحلة إزدهار مكتبه الإستشارى من حيث أهمية و حجم المشاريع التى تعامل معها. بالإضافة إلى ذلك، إكتسبت هذه المرحلة أهمية خاصة لأنها شكلت منعطفاً واضحاً فى تحوراً ملموساً فى فكره و أسلوبه المعمارى. سأعود مرة أخرى لاحقاً لتوضيح هذا الجانب مستعرضاً و مستشهداً ببعض من أعماله.

تعامل عبد المنعم مصطفى من خلال مكتبه الإستشارى مع عدد من من أهم المشاريع الكبيرة فى نهاية السبيعينات و بداية الثمانينات. على راسها مبنييى رئاسة المصرف العربى لتنمية أفريقيا ثم محمع مؤسسة التنمية السودانية. شكلت هذه التجربة نقلة ملموسة إذا قارناه بنوعية المشاريع التى تعامل معها من قبل. إذا أخذنا فى الإعتبار الجهة صاحبة المشروع و حجمه و درجة تعقيد نظامه الإنشائى و الخدمى. لهذه الإعتبارات مجتمعة تعامل عبد المنعم مصطفى و مكتبة الإستشارى مع هذين المشروعين بطريقة خاصة فى كل مراحل إعدادهما.

تعامله مع تلك المشاريع وثق لبداية منعطف فى أسلوبه و معالجاته المعمارية. فى كلا تلك الحالتين المهمتين أستمسك و إستعصم عبد المنعم بنهج الحداثة. زاد على ذلك بأنه وصل به إلى قمة التبسيط، ما يشار ألية باللغة الإنقليزية بأسلوب ال minimalism. ترجمتها باللغة العربية جائت فى المثل الشائع- خير الحديث ما قل و دل. معالجاته فى هذين العملين شكلت ضربة البداية لمنعطف مهم فى أسلوبة المعمارى. إستمسك به لاحقاً بكل صرامة بالذات  فى مجال المبانى الإدارية و المكتبية.

مبنى رئاسة المصرف العربى لتنمية أفريقيا يحتل موقعاً مفتاحياً بمدينة الخرطوم يطل على شارع المهدى- الطابية- الرئيس و يقع شمال منطقة القيادة العامة. عمارة المبنى و شكله العام فى غاية البساطة. عبارة عن كتلة واحدة متطاولة الخارطة تنهض لسبعة طوابق. تعزز من درجة نقاء الكتلة قلة و محدودية الفتحات. النوافذ، بعضها علوى عبارة عن شرائط رفيعة أفقية و أخرى راسية رفيعة أيضاً تكاد لا ترى لأنها مفتوحة على جانبى الأجزاء البارزة من المبنى. المتطلع إلى المبنى من مستوى منخفض أو من زاوية جانبية يكاد لا يرى تلك الفتحات فيغمره الإحساس بالكتلة المتممدة فى الأفق، معالجة قمة فى الحداثية تكاد تلامس تخوم الكلاسيكية. 

ذهب عبد المنعم هنا بعمارة الحداثة لأقصى درجات النقاء و إستمسك بضوابطها بصرامة و إنضباط فائق. تجاهل ما تحمله مكونات إسم المؤسسة الإقليمية صاحبة المبنى- مصرف عربى و تنمية أفريقيا. فلم يلجاء للأساليب المفرطة فى البساطة لدرجة السذاجة. لم ينثر الأقواس العربية الإسلامية فى أرجاء المبنى او يطعمه بالأشكال المسننة كمؤشرات للفنون الزنجبة الأفريقية. مال لما هو أعمق و أبقى. صنع عمارة طاغية الحضور تعبر بشكل غير مباشر عن السلطة القوية، ترمز لمقدرات العرب العالية التى تستهدف دعم تنمية أفريقيا.  فصنع صرحاً شامخاَ يكاد يسد الأفق. منظره المشبع مهابة و لونه الرمادى و ملمسه المائل للخشونة منحه إحساساً عالياً بالعراقة. من المحزن أن تلك الملامح المؤثرة قد طمست بدعوى التجديد. 

إنخرط مكتب عبد المنعم مصطفى الإستشارى بعد إنجازه لمشروع المصرف العربى فى التعامل مع مشروع آخر بالغ  الأهمية أيضاً. ظهرت فكرته بشكله النهائى المتكامل فى بداية حقبة الثمانينات و فى أجواء تسودها أمال عراض. الإشارة هنا لمشروع مؤسسة التنمية السودانية التى أسس لها نظام ثورة مايو بشكل جاد. كان يعول عليها كثيراً فى النهوض بحركة تنمية كبيرة تقوم على مؤشرات إقتصادية واعدة على رأسها بوادر الإكتشافات البترولية المبشرة بخير وفير. هذه المعطيات شكلت الأرضية لمشروع مقر المؤسسة الذى إبتداء الإعداد له بشكل جاد يليق بقدر الطموح و الأمال المعلقة على فكرتها.

إستعد مكتب عبد المنعم الإستشارى بشكل خاص لهذا المشروع بالغ الأهمية، و كانت الجهات العليا توليه إهتماماً يتسق مع رؤيتها المستقبلية فوفرت كل المعينات المطلوبة. كانت مؤسسة التنمية السودانية تدار  بعدد محدود من المنسوبين. لهذا السبب تقرر أن يشيد مجمع أو صرح كبير ليستوعب المكاتب الخاصة بها على أن يوظف باقى كمبنى إستثمارى. إتفقت الرؤى على أن يشيد و يعد بأعلى مستوى يليق بمقام المؤسسة التى كان يعول عليها كثيراَ.  لهذا السبب تم إختيار مكتب عبد المنعم مصطفى كجهة إستشارية. رشحته لهذا العمل سيرته الذاتية المميزة و أهم إنجازاته مشروع مقر رئاسة المصرف العربى الذى قام بتصميمه و أشرف على تنفيذه.

خصصت الجهات العليا لمجمع مؤسسة التنمية السودانية مساحة كبيرة بمقدار مربع كامل فى حى العمارت و كان أرقى أحياء الخرطوم زمائذ. خصص لمقرها موقع مهم مطل على شارع رئيس سمى لاحقاً بشارع الملك سعود. يقع بين شارعى سبعة عشر و واحد و عشرون. الموقع و منطقته كان ملائمةً  لأغراضه المتعددة و بعضها إدارى و تسوقى. يتميز حى العمارات بمبانية الراقية و كانت توجد به عدد من مبانى السفارات و الشركات الخاصة الكبرى بالإضافة لفيلات وجهاء المدينة. عليه كان يجب أن ترتقى عمارة المجمع لذلك الإطار الحضرى، و أن تتجاوزه إذ أن المؤسسة كانت تعتبر كيان شبه رئاسى.

إهتم مكتب عبد المنعم مصطفى الإستشارى بمشروع مجمع مؤسسة التنمية السودانية بشكل إستثنائى. حجم المشروع و الرؤية الطموحة و الصورة المرتجأ إقتضت إستعداداً خاصاَ. فى هذا الإطار دخل المكتب فى شراكة مع مكتب إستشارى غربى مرموق. كما هو الحال دائماً مع العمل المعمارى بشكل عام و تحديداً مثل هذه المشاريع المعمارية الكبيرة و المهمة إخضعت الأفكار الأولية لنقاشات مستفيضة. تبلورت من خلالها الأفكار النهائية التى وضع عليها عبد المنعم بصمته البائنة مؤسساً لمرحلة مهمة من مراحل تحور أسلوبه المعمارى.  

مبنى المجمع بكتله الأربعة الضخمة و طوابقه العشرة تمدد بشكل كثيف فى أفق ذلك الموقع بحى العمارات. هيمنته على فضاء الحى جائت  معبرة عن المكانة المتوقعة  و المخطط لها فى تلك الحقبة لمؤسسة التنمية السودانية. محدودية مساحة الفتحات على الواجهات زاد من الإحساس بكتل المبانى بالغة الضخامة. منح العمارة أجواء أثارية تنضح عراقة، جعلها تبدو شبيه بإهرامات الجيزة. باللغة الإنقليزية جعل العمارة very monumemtal . جائت قمة فى التعبير فأوصلت الرسالة البليغة بطريقة، خير الحديث ما قل و دل.

توغل عبد المنعم مصطفى فى تصميمه لمجمع مؤسسة التنمية السودانية و واصل فى تأسيسه لنهج ال minimalism  الذى إبتدره فى مشروع المصرف العربى. حقق ذلك الهدف عبر عدة خطوات تصميمية ساهمت فى تحقيق أعلى درجات البساطة و النقاء. إنعكس ذلك بشكل واضح فى تصميم الواجهات الرئيسة. سعى بقدر الإمكان فى تعميق فكرة الإحساس بالكتلة. حققه إلى حد بعيد بتقليل مساحة فتحات النوافذ الخارجية. جعلها فى شكل شرائط أفقية ضيقة تتمدد على واجهات الأبراج الأربعة تكاد تتصل ببعضها البعض. الإحساس القوى بالكتل و بالعراقة هنا عمق من تأثيره الإحادية اللونية، فالمجمع بكاملة مطلى بلون واحد، بيج مائل للرمادى.   

إستمر عبد المنعم مصطفى من خلال مكتبه الإستشارى فى فترة عقد التسعينات فى السير على نهج ال minimanlism. طبقه فى عدد من المشاريع الصغيرة و الأقل أهمية. نذكر منها على وجه التحديد مبنى مكتب شركة الخطوط الجوية السعودية فى الجزء الجنوبى من شارع على عبد اللطيف. بالإضافة لعمارة (ود الجبل) بسوق حى الخرطوم إثنين. العمارة فى تلك الحالات سارت على نفس النهج. مصممة لكى تعطى بقدر الإمكان الإحساس بالكتلة الواحدة. تحقق هذا الهدف بعدة معالجات. تكرارية المكونات و التقليل من مساحة الفتحات. الإحادية اللونية كانت أيضاً عاملاً مؤثراً. كلا المبنيين ً كما هو الحال فى منظومة أعمال تلك المرحلة تتوشحان تماماً باللون الأبيض.

جاء عقد التسعينيات بأخبار كثيرة غير سارة لعبد المنعم مصطفى و مكتبه الإستشارى إستمرت لعقود من الزمان. إستلم الحكم فى بداية تلك الفترة نظام عسكرى ذو خلفية إسلامية قدم نفسه بإسم ثورة الإنقاذ الوطنى. إستفزت توجهاته السياسية بعض المجموعات السودانية و تطور الأمر فأدى لأشتعال نيران الحرب الأهلية هنا و هناك. تفاقم الوضع فى السودان و تسبب فى مواجهات عسكرية و حالة حرب مع عدد من جيرانه. عانت البلد كثيراً من هذه الحالة التى أستمرت لعدة سنوات كانت خصماً على كل جوانب التنمية و مجال الإنشاءات.

تحسن الحال بعد عدة سنوات من تفجر ثورة الإنقاذ و إنساب النفط فى شرايين الإقتصاد فتحركت عجلة التنمية. ظهرت معها المشاريع الكبيرة و الصغيرة التى نشطت العمل فى مجال الإنشاءات و العمل الإستشارى المعمارى. كان النظام الجديد كان فى تلك الفترة قد أحكم قبضته على كل مفاصل الدولة و صنع له مؤسسات حكومية و شبه حكومية تقع تحت مظلة نظامه السياسى و الإديولوجى. من خلال ذلك إحتكر العمل فى المجالات الإستشارية. تأثر عبد المنعم مصطفى و مكتبه الإستشارى و عدد من المكاتب الشبية بشكل سلبى مؤثر. كاد بعضها أن يصفى أعماله. أجبرت تلك الظروف عبد المنعم فى منتصف العقد الثانى و دفعتة للهجرة للولايات المتحدة.   

المتآمل فى مسيرة عبد المنعم المعمارية منذ بداياته الأولى فى منتصف الستينات حتى العقود الأولى من الألفية الثالثة يلاحظ ظاهرة تحور بائنة فى أسلوبه. حاولت أن أن آوطرها فى ثلاثة مراحل. المرحلة الأولى حاول فيها عبد المنعم أن يقدم نفسه من خلال نهج الحداثة الذى كان بعض المعماريين الغربيين قد وضعوا لبناته الأولى. قدم نفسه فى البدء من خلال العمارة السكنية من بيوت و فيلات. بالرغم من إلتزامه التام بضوايط نهج الحداثة إتسمت عمارته بحيوية بائنة أشرنا لها من قبل بشئى من التفصيل. تفسيرى أنه إتبع هذا النهج للترويج لعمارة الحداثة التى كانت تبدو جافة و جادة إذ قورنت بالمعالجات الكلاسيكية المحتشدة بالزخارف.

المرحلة الثانية من مراحل تحور عمارة عبد المنعم مصطفى شهدتها أرجاء العاصمة المثلثة فى فترة السبعينات. كان قد ذاع صيته مما مكنه من التعامل مع أنواع مشاريع كبيرة خارج إطار العمارة السكنية. تزامن هذا التطور مع نقلة لا تقل أهمية فى أسلوبه المعماري شكلت مرحلة متميزة لم تستمر لفترة طويلة او تنعكس على أعمال عديدة. تغيرت عمارته التى كانت تتميز من قبل بدرجة عالية من السكون. إختلفت تماماً فى هذه المرحلة إذ جائت مفعمة بالحركة. أبلغ الأمثلة تعبيراً عنها عمارة الأخوة الواقعة على الطرف الجنوبى الغربى من شارع عطبرة بمركز الخرطوم التجارى. تضاف إليها عمارة إبراهيم طلب بشارع البلدية بالخرطوم بحرى
.

المرحلة الثالثة من مراحل تحور عمارة عبد المنعم مصطفى و مكتبة الإستشارى كنا قد إسترسلنا فى الإشارة إليها و تغطيتها هنا من قبل. هى مرحلة توجه إختصرته فسميته عمارة ما قل و دل يشار إليها باللغة الإنقايزية بال minimalism.  أرخت لها بداية الثمانينات و إستمرت بعد ذلك فى وتيرة تصاعدية إبتداء بعدها العد التنازلى لعطائه مع بدايات القرن الحالى. أشرنا من قبل إلى أهم الأعمال المعمارية المعبرة عن هذه المرحلة الثالثة. من أهمها المصرف العربى لتنمية أفريقيا و مؤسسة التنمية السودانية و مبانى أخرى أقل حجماً و أهمية ورد ذكرها من قبل.








شارك هذا المقال :

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

 
Support : Creating Website | Johny Template | Mas Template
copyright © 2011. سوداكون - All Rights Reserved
Template Created by Creating Website
Proudly powered by Blogger